معيار الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

معيار الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

الأستاذ عبد السلام الرياضي

مما تشرفت بِه هذه الأمة، وتسمو به مكانتها حيث أصبحت خير أمة -أنها تحمل رسالة الإسلام الخالدة إلى العباد، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتدعوهم إليه، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران : 110]، فلا بد للمسلم أن يلتزم بمعايير وأصول الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وأن يعي دوره في هذه الفريضة التي يبتني عليها بقاء الأمة وهلاكها، فبقيامها قيام الأمة، وبضياعيها ضياع الأمة، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال: “أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لاَ يَضُرٌّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم}، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: “إنَّ الناس إذا رأوْا الظالم، فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه”1.

فمن عدم الوعي والاعتناء بالأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المنكر أن يتولاهما أحد بلا علمٍ ولاحكمةٍ ولا انضباط بالضوابط والآداب التي يتطلبها فرض هذه المهمة.

ولقد اعتنى العلماء بتوضيح معايير وضوابط وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال بحثِ واستقصاءِ جملة من الأدلة والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وسنعرض في هذه المقالة معايير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجاءت في تسع نقاط وفي جزء آخر نستعرض الآداب التي يجب التحلي بها عند الأمر أو النهي.

أ- معايير وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

1 – العلم: أول ما ينبغي استحضاره على من يقوم بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أن يكون على العلم بالحكم الشرعي فيما يأمر به أو ينهى عنه، ولايصلح منه الكلام على الظن أو التقدير أو وفق مايلتزمه هو من عادات وتقاليد مما لايعرف في الشرع حيث يقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، بل قدم الله تعالى العلم على التوحيد إذ يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19].

فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر الا من كان فقيها فيما يأمر به وينهى عنه.2 قال الإمام النووي رحمه الله: “فإن كان من الواجبات الظاهرة أو المحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك وظيفة العلماء3.

إذنْ ثمة أمور يعلمها كل مسلم، وثمة أمور يختص بمعرفتها أهل العلم والمجتهدون، فالمسلم العامي يعلمُ أمورَ الصلاة والصيام ونحوها من الواجبات، ويعلمُ حرمة الرِّبا والغش وكشف العورة، فينهى عنها، وهذا مايسمى المعلوم من الدين بالضرورة، وما سوى ذلك يختص به أهل العلم.

2 – الأولية فالأولية : الأصل في هذا أن يقدم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، حيث ورد ذلك في الشرع على هذا الترتيب، إذ يقول الله عز وجل: { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وأنْ يبدأ بالأمر بالواجبات قبل السنن، وأنْ يَنهى عن المحرمات قبل المكروهات، وكثيراً ما يَجْتمع في الموقف الواحد معروفان أو منكران، فيُشْكِلُ على المسلم بأيّهما يبدأ؟ فإن الأَوْلى في كل ذلك أن يقدم الفرض علي السُّنة في الأمر، وأن يقدم في النَّهي المحرَّم على المكروه، إلا إذا كان يَقدر على أحدهما دون الآخر؛ فيأمر أو يَنْهى على ما يقدر عليه، دون ما لايقدر عليه. وهذا هو المستفاد من الحديث التالي: عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ”4

فانظر أيها القارئ الكريم إلى من نتوجه بالدعوة؟ إلى الذين وقعوا في الشركيات والخزعبلات، أم إلى من وقعوا في المسائل الخلافية من رفع اليدين وعدمه أو وضع اليدين على الصدر، أو تحت  السرة، أو الذين يجهرون بالآمين، أو يسرون به؟ فهناك أناس يرتكبون الشرك والمبتدعات ما يخلدهم في النار، ونحن في نزاع شديد بين الحنفية والسلفية! فيا للعجب؟! نسأل الله السلامة والعافية.

3 – ألا يؤدِئ إلى منكر أكبر من الأول: وهو فقه مهم يغفل عنه الكثير من الناس، بل ربما بعض الدعاة، وذلك مستنبط من الحديث العظيم الذي ترويه السيدة عائشة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ، فهدم، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ.5 وفي الحديث دلالةٌ واضحةٌ على ترك الصواب خشية فوات ما هو أبلغ وأهم منه، أو خشية وقوع فتنة بين الناس، وكم من ناهٍ ينهي عن منكرٍ جرَّ منكراً أعظم من الأول، والله المستعان، وما وقع ذلك إلا لقلة الفقه في هذا الباب، وقلة الإخلاص. نسأل الله السلامة.

4 – المسائل الخلافية لا تدخل في الأمر والنهي: وذلك إذا كان الخلاف معتبراً عند أهل العلم، وخاصة عند المذاهب الإسلامية المتبعة؛ لأنَّ لكل مذهب إماما ودليلا عليه العمل، ولا يمكن أنْ يتفق أهل العلم في كل الفروع والأحكام، نعم، المصيب واحد- عند بعض العلماء؛ لأنّ الحق واحد لا يتعدد، والمخطئ غير متعيّن لنا، ولايمكن الجزم بالصواب مطلقا، والإثم مرفوع عن المجتهد وعمّن يتابعه ويقلده، والتحقيق متطلب من أهل العلم، فلا يمنع من الرّدِّ العلمي، ومناقشة المخالف بالأدلة المعتبرة. وتحدث الفقهاء عن الخروج من الخلاف وهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق كما قالوا، واتفقوا على أنّ الخروج من الخلاف سنّةٌ إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر6

https://makkahacademy.org/1-aadab-standard/ – _ftn3

إلا الخلاف الشّاذ أو غير المعتبر، فيحق بل يجب الإنكار على صاحبه، لعدم قيامه على دليل مقبول، ولا قيمة لهذا النوع من الخلاف ولا يمنع من الإنكار.7

5 – المعرفة بحال من يأمره أو ينهاه:  فمن بصيرة الداعية  أن يعرف حال من يدعوه، أو يأمره، أو ينهاه، وهذا نحو من دخل بلداً وهو لا يعرف تقاليدهم أو لهجاتهم أو مذاهبهم الفقهية، وخاصة ما قد يكون ممن حاله الاضطرار، كمن جاز له أكل الميتة، وكمسافر أفطر في رمضان، ونحو ذلك، والخلل في معرفة أحوال من نأمره بمعروف أو ننهاه عن منكر-قد يتسبب الخطأَ أو الحرجَ أو الوقوعَ في منكر آخر.8

6 – أن يكون المنكر ظاهراً: فلا يتحسس ولايتجسس على الناس، فلا يصح ولاينبغي لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنْ يتتبع عورات الناس، ويكشف أستارهم، ولايبحث عما لم يظهر منهم، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَايَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: غَزَوْنَا أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جُهَيْنَةَ فَحَمَلْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ” قَتَلْتَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا قَالَهَا تَقِيَّةً، قَالَ: «فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»9. وفي بعض الرواية قال أسامة: فما زال يكررها علي: ” أقال لا إله إلا الله ثم قتلته؟ “، حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلايومئذ.10 واستثنى العلماء من ذلك ما يفوت استدراكه من المحرَّمات كمن اختلى برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيصح الإقدام على الكشف.11

7_ أنْ يكون المنكر واقعاً في الحال لا في الماضي: فلا يجري الإنكار على ما وقع من شخص ما من منكرات في أزمان ماضيّة، إلا إذا كان من باب التذكير بالتوبة ونحوها لمن فرط أو قصر في حق الله تعالى أو في حق الناس. وذاك مستنبط حديث التوبة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ12.

8_ تأجيل الأمر أو النهي إلى وقت مناسب: كثير من الناس نراه من المتعجلين في الأمر أو النهي على الإطلاق فيما يصادفه من الأمور، والحق أن المسارعة في المناصحة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محمودة غالباً إذا كانت في الأمور الواضحات، وفي المواقف التي قد لا تحتمل التأجيل. أما الحالات التي تحتمل التأجيل فإن التأجيل فيها إلى وقت أو مكان أنسب أبلغ في الأمر أو النهي؛ حتى يحصل التأثير الذي يدفع الناس إلى الاستجابة، كأن يؤجل أحدهم أمر أحد جيرانه إلى يوم الجمعة، أو إلى وقت زيارته، أو حين يجد منه رقة في القلب، أو همة في العبادة، ونحو ذلك، وقد ورد كهذا في التربية النبوية الحكيمة، حيث جاء في حديث ماعز الأسلمي التائب من الزنا”فما تريد بهذا القول؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُرْجَمَ، فَرُجِمَ، فَسَمِعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُمَا، فَمَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: “أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ ” فَقَالَا: نَحْنُ ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمَا: “كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ” ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا الرَّجُلِ آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكَلِ هَذِهِ الْجِيفَةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ الْآنَ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ”13. ففي الحديث دلالة واضحة على تأجيل الأمر إلى وقت مناسب، وهذا من الفقه الدقيق والعمل السليم، نسأل الله التوفيق.والسداد.

9- استثمار الفرص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القصد من ذلك انتهاز أوقات وأماكن أو تجمعات مخصوصة كالجُمَعِ والجماعات، فما يتقبله الناس في رمضان أكبر وأكثر مما يتقبلونه في غيره، وكذلك الحج ونحوه من مواسم وأماكن العبادة. وذلك أن النبي ﷺ كان يخطب يوم الجمعة والعيدين كما خطب يوم حجة الوداع، ويوم فتح مكة وغيره، مثل ما روي عن أبي أُمَامَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَطِيعُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ»14 ففي ذلك دلالة واضحة على استثماره الفرصَ واغتنامها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والإرشاد.

ب- آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

1 – الإخلاص: هي من أهم الآداب التي يجب أن يتحلّى بها الداعيـة ليقبلَ الله عملَه، حيث قال الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}وقال النبي ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»15 وإن ابتغى بدعوته جاهاً أو شهرةً أو مالاً فقد ذهبتْ هباءً منثوراً. بالإخلاص يكتب الله التوفيق والسداد للداعية، ويكافئه أيضاً بإصغاء الناس لحديثه وقبول دعوته.

2 – الصبر والتضحية: يجب أن يعلم الداعية إلى الله أنّ استقطاب الناس ليس بالأمر السهل، فربما يجد الإعراض والنفور والصدود وحتى الأذى والعِداء، وقد أمر النبي ﷺ بالصبر، فقال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48]، وهذا من ابتلاء الله تعالى للدعاة، واختبار مدى صدقهم وحبهم لله واستعدادهم لخدمة دينهم، فلو استجاب الناس بسرعة لما ظهر صدق الداعية، واستعداده لخوض المصاعب من أجل ربّه.

3 – الحكمة والموعظة الحسنة: فمن الصفات والآداب التي ينبغي أن تكون في الداعية أن يكون حكيماً؛ وذلك بأن يكون حسناً في مخاطبة الآخرين في الوقت المناسب، والمكان المناسب، والأسلوب المناسب، واللين والرفق في الكلام؛ قال الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، فينبغي على الداعية أن يرغّب الناس في الإسلام، بالترغيب الحسن؛ فيعرض كلامه عليهم بالرفق واللين، وبأسلوب عذب، ويُبشر ولا يُنفر، ويتجنب قسوة الكلام وشدته.

4 – الجدال المثمر: أي الجدال الحسن، والحوار المثمر البناء الذي يهدف إلى كشف الحقيقة، لا النيل من كرامة المخاطَب، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] (جدال الإمام أبي حنيفة مع الدهريين، وقصة عمر بن عبد العزير مع الخارجي)

5 – التّحلي بالأخلاق الفاضلة: من صدق، وأمانة، وعفو، وحِلم، وكرم، وحسن معاشرة. فهذه صفات الداعية الراقية التي تحميه من نفور الناس. إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ.16

6 – القدوة الحسنة: يجب أن يكون داعية إلى الله بأفعاله قبل أن يكون داعية بأقواله؛ كي يتأسى الناس به، ويتقبّلوا دعوته. فكيف يطلب داعيةٌ من الناس تطبيقَ أمرٍ هو نفسه لا يطبّقه. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]

7 – عدم الانتقام للنفس: فلا يغضب إلا لله، ولا ينفعل إلا إذا انتُهِكت حرمات الله، وهذه كانت صفة النبي ﷺ. وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ انْتُهِكَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةٌ هِيَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا”.17

8 – التواضع: صفة يجب أن يتصف بها الداعية قبل أن يدعو الناس إلى تطبيق دين الله تعالى، فالناس تنفر من المتكبر ولا تستجيب له، كذلك فإنّ الله تعالى لا يوفق الداعية الذي في قلبه كِبر.

ومن خلال ما ذكر من معايير وضوابط وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضح للمسلم متى يأمر وينهى، ومتى لايأمر ولاينهى. فلا ينهى

عن منكر وقع في الماضي ولايتجسس من أجل ذلك، ولاينهى من لايعرف حاله، ولايُدخل الخلاف الفقهي في مسائل الأمر والنهي، ويعتني بالأول فالأول، ودون أن يؤدِ إلى منكر مماثل أو أكبر من الأول، ولايأمر ولاينهى إلا عن علم، ويتحلى بالآداب المنشودة، والله الموفق، وهو هادي السبيل، والحمد لله رب العالمين.

الكاتب: أستاذ الحديث النبوي سابقا بجامعة دار المعارف الإسلامية، شيتاغونغ.

باحث في الدكتورة بجامعة ملك بن سعود، مكة المكرّمة

(1) الترمذي، سنن الترمذي، ت بشار، ج4، ص 37، ح2168.

(2) ابن تيمية، الاستقامة،ج2 ص 233

(3) النووي، شرح صحيح مسلم، ج1، ص 213.

(4) الإمام مسلم، صحيح مسلم، ج1، ص 50، ح 29.

(5) صحيح البخاري، ج 2، ص47، ح 1586.

(6) النووي، شرح صحيح مسلم ج1 ص 213.

(7) عبد الكريم زيدان، أصول الدعوة، ص 183.

(8) ابن تيمية، مجموع الفتاوى ج 28، ص 138.

(9) البغوي، شرح السنة، ج 10، ص 242، ح 2562

(10) شرح مشكل الآثار، ج8، ص 263، ح 3228.

(11) عبد الكريم زيدان، أصول الدعوة، ص 182.

(12) البيهقي، شعب الإيمان (9/ 363)، ح 6780

(13) صحيح ابن حبان، ج 10، ص245، ح4399.

(14) المستدرك على الصحيحين للحاكم، (1/ 646)، ح 1741.

(15) صحيح البخاري (1/ 6)

(16) مسند أحمد ط الرسالة (14/ 513)

(17) مسند أحمد ط الرسالة (41/ 329)

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on linkedin
LinkedIn