سطور في سيرة الشيخ عبد الحليم البُخاري ومسيرة حياته
الأستاذ/ محمد طه بن عبد المنان دانش
ليس غريبا إذ رجّح الباحثون أنّ كلمة بخارا مشتقّة من كلمة (بخار) عند المغول التتار، ومعناها: العلم الكثير= أن يكون الواقع فعلاً دالاً عليها؛ فهي مدينة زاخرة بالعلم والعلماء الأجلاء على مر التاريخ وعلى رأسهم: الإمام أبو عبد الله محمّد بنُ إسماعيل بن إبراهيم الملقّب بالبخاري نسبة إلى بُخارا؛ صاحب كتاب (الجامع الصحيح)، وهي إحدى المدن الإسلاميّة العريقة التي لها تاريخ حافل بالإنجازات على مرّ العصور، و التي تقع إلى الغرب من جمهوريّة أوزباكستان على مجرى نهر زرفشان في قارّة آسيا، ولكنها في سنة 1920م بعد قيام الثورة الشيوعية في “روسيا” استولى الثوار على “بخارا” وقاموا بتخريب المدينة، تخريبا لا يقل عن تخريب التتار لها، واستمرت الاعتداءات حتى سنة 1920 حين سيطر الروس سيطرة نهائية عليها، فتمكنوا من اقتحامها و قاموا بأعمال النهب والسلب والتخريب في المدينة.
لما كثر اضطهاد الاتحاد السٌّوفِيتي في تلك البلاد الإسلامية؛ وواجه علماؤها أشد أنواع العذاب من الظلم والتشريد؛ اضطروا إلى الهجرة وترك أوطانهم، فهاجروا وطنهم وآثروا دينهم على حطام دنياهم، رضي الله تعالى عن هؤلاء الرجال جميعا.
جَمَالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهُمْ
بعد الممات جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَر
فهاجر جَدُّ شيخنا البخاري الشيخ سيد أحمد مع فئة من العلماء إلى شبه القارة الهندية، فورد جَدُّه المهاجر في (لُوْهاغارا) أحد مناطق مديرية شِيْتاغُوْنْغ عند الشيخ العالم (راحت علي)، وكان بمنزلة الأنصار للمهاجرين فأكرمه ونعَّمه، وتمت المؤاخاة بينهما، فلكون أصل جده من (بخارا) عرف الشيخ بهذه النسبة.
اسمه ونسبه ونشأته:
هو العالم الحاذق، المحدث الألمعي، حكيم الإسلام والملة الشيخ عبد الحليم بن عبد الغني بن سيد أحمد البخاري.
وُلد الشيخُ عبدُ الحليم البخاري في بيت معروف بالصلاح والتقوى، والشرف والجاه من قرية (راجغاتا) من لُوْهاغارا أحد مناطق مديرية شيتاغونغ، عام 1945 الميلادي، الموافق 1364هـ تقريبا، فنشأ في هذه القرية وترعرع فيها.
طلبه للعلم:
لما بلغ الشيخ عبد الحليم البخاري خمس سنين من عمره، أدخله والده في كُتَّاب المدرسة الحسينية عزيز العلوم، (راجغاتا، لوهاغارا) ثم أكمل دراسته في هذه المدرسة إلى المرحلة العالية، وفاز في جميع المراحل بدرجات مميزة.
ثم ذهب إلى الجامعة الإسلامية فتية، ودخل في علوم الشريعة من أوسع بابها، حيث كانت الجامعة –حينذاك- قبلة رجال العلم والأدب وملتقى المشاهير والأعلام، وظل فيها الشيخ أربع سنوات، في العصر الذي كانت الجامعة في أيام شبابها وفّتُوتها، وأرقى عصورها وأقواها، وحصل له التفوق في جميع الاختبارات؛ وفاق على أقرانه، حتى أكمل دراسة (دورة الحديث) سنة 1384هـ-1964م بنجاح باهر، وكان الشيخ قد حصل على الترتيب الأول في الدفعة في الاختبار النهائي، مع أن زملاءه في الدراسة ورفقاءه كانوا من أذكياء العصر ونوابغ زمانهم!
فقد نبتت غرسة علمه في المدرسة الحسينية فذهب إلى جامعة فتية فنمت وترعرعت، وامتدت أغصانها حتى شملت بوارف ظلها طول البلاد شرقا وغرقا.
شيوخه في الحديث وعلومه:
وفي جامعة فتية لقي بالعلماء الأفذاذ، وأخذ العلم من عباقرة العلم والمعرفة، ومن شيوخ الحديث الذين درس عندهم دواوين السنة قراءة وسماعا ودرسا في سنة 1384هـ، هم كالتالي:
شيخ المشايخ الإمام أحمد –رحمه الله-، والشيخ فضل الرحمن، وهما من كبار تلامذة محدث العصر أنور شاه الكشميري (ت 1352هـ)، والشيخ أمير حسين، ومحمد إسحاق الغازي، و نور الإسلام القديم، وعلي أحمد البُوالَوِي، والشاعر محمد دانش، والشيخ حسين أحمد، والمفتي إبراهيم -رحمهم الله-.
كما حصل له الإجازة العامة لرواية سائر الكتب الحديثية عن شيخ الحديث الخطيب الأعظم صديق أحمد(ت1987م) رحمه الله، بل كان الشيخ من أصفى تلامذة الخطيب الأعظم، ومن أحب الناس إليه، يستفيد منه في الخلوة والجلوة، وفي الحل والترحال، ولصحبته أثر ملموس في تكون شخصيته العلمية وبناء ذوقه الرفيع.
التحاقه بالدراسات العليا ونبوغه فيها:
وفي سنة 1965م- سنة تخرجه في الجامعة- أنشئ قسم اللغة الوطنية والإنجليزية كأول مبادرة في فتح أبواب الدراسات العليا في الجامعات الأهلية في بنغلاديش، ليتولى العلماء قيادة اللغتين ويتملكوا ناصيتهما، وكانت هذه الخطوة من الجامعة لخطوة جريئة؛ لما كانت اللغة البنغالية تعاني من إهمال شديد وازدراء كبير من قبل طلاب المدارس الدينية وعلماء المسلمين، فالتحق شيخنا البخاري بالقسم بأمر أساتذته، ودرس فيه سنتين، فاجتمع لديه علوم الدنيا والدين بطريقة فريدة! وربط بين الأصالة والمعاصرة وبين الجديد النافع والقديم الصالح، وهنا تفتحت قريحته، وبرز نبوغه، وتجلت مواهبه.
كمحدث للمدارس والجامعات:
بعد تسلحه بأسلحة العلم والمعرفة خرج الشيخ إلى تنغائيل بأمر مشايخه كمحدث للمدرسة العالية بها، ففٌوِّض إليه تدريس المشكاة وسنن الترمذي وتفسير البيضاوي، ولم يمض عليه سنتان إلا وقد تولى تدريس الجامع الصحيح للإمام البخاري، فدرَّسه طوال عشر سنين.
وكان للشيخ في منطقة (تنغائيل) صولة وجولة، وقد أحيا فيها علوما درست، وخلف تراثا باقيا، وربَّى أفواجا متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي المدرسة، وكان الفقه والإفتاء شُغْلَه الشاغل أيام إقامته فيها، حتى فُوِّض إليه منصب (المفتي) في المدرسة العالية ب(تنغائيل)،وقام بمسؤولية الإفتاء خير قيام.
وفي سنة 1402هـ الموافق 1982م، عاد إلى مهده العلمي في فتية، وبدأ مشواره في الجامعة الإسلامية فتية تحت ظل مشايخه وبين يدي أساتذته، وقد فُوِّض إليه -لأول وَهْلة- تدريس شرح معاني الآثار للإمام الطحاوي ومشكاة المصابيح وكتاب البيوع من الهداية للمرغيناني في الفقه، وبعد سنوات تولى تدريس سنن الترمذي ما قد امتد تدريسه له (25) سنة في تاريخ الجامعة، فاشتهر أمره في البلد وذاع صيت تدريسه في الباكستان والهند أيضا.
الشيخ يتولى تدريس الجامع الصحيح للإمام البخاري حاليا، فهو شيخ الحديث بالجامعة جنباً بجنب قيامه بمهام رئاسة الجامعة وإدارتها، فهي والله لسعادة لاتنال بالقوة إلا أن يعطيها المعطي سبحانه.
ومن ميزات دروسه أنه يلقي دروسه هادئ البال مطمئن النفس فيسهل للآخذين الأخذ والاستفادة، والشيخ يلتزم بالوقت كل الالتزام فتراه أنه مع كثرة أشغاله وبعض أمراضه المنهك لا يغيب عن الدروس؛ بل لا يتأخر عن وقتها دقيقة واحدة! ونتيجة لذلك أن الدروس تنتهي في ميعادها والمناهج تصل إلى نهايتها بدون أي سرعة وتمتمة! إن في ذلك عبرة لمن اعتبر.
مناصبه الإدارية:
في أواخر سنة قدومه بالجامعة أي سنة 1982هـ،وقع الاختيار على الشيخ كأمين عام لهيئة اتحاد المدارس الأهلية بنغلاديش في جلستها العامة، فعمل ليل نهار على قدم وساق في تنظيم أكثر من (500) مدرسة من المدارس الأهلية التابعة للهيئة، وترتيب أمورها، ومحاسبة شؤونها الداخلية والخارجية، وقد مضى اليوم (38) عاما، والشيخ على منصبه يلعب دورا فعالا في رقي الهيئة وازدهارها، ويقوم برحلات وجولات إلى هذه المدارس الواقعة في مختلف مناطق البلاد، وإصلاح شؤونها طول السنة في حرارة الصيف وبرودة الشتاء، وبهذه الجهود الحثيثة ازدهرت الهيئة ازدهارا مرموقا في عصره الذهبي، وقامت المدارس والجامعات على قدمها بحسن نظامها وإدارتها.
والشيخ اشتهر في إدارة المجلس الاستشاري لهذه المدارس بحسن القضاء وجودة الفراسة، وأهل المدارس يكونون على ثقة عظيمة في قضائه في شؤون مدارسهم، فكم من مدرسة سلمت من الانهيار بحسن تدبيره، وكم من معهد أخمدت منه نار الفتن بجمال توسطه، وكان الشيخ حكيما في تعليمه، حكيما في إدارته، حكيما في دعوته، حكيما في بحثه وإقناعه، وقد ظهر ذلك كل الوضوح على كل من القاصي والداني.
الشيخ في منصب رئاسة الجامعة:
بعد تولية الشيخ عدداً من المناصب الحساسة بالجامعة أمثال عميد الشؤون التعلمية ومساعد رئيس الجامعة زمنا طويلا اختير الشيخ كرئيس لهذه الجامعة، وذلك حسب قرار السلطة العليا من الهيئة الاستشارية بالجامعة سنة 2008م.
وقد مضى(12) عاما على رئاستها، فهو يقوم بمهامها ويحسن إدارة الجامعة والقيام بمسؤوليتها، حفظ الله جامعتنا وأنار العالم بأنوارها،؛ رعى الله رئيسها برعايتها وألبسه لباس الصحة والعافية.
علاقته بالتزكية والتصوف:
بايع الشيخ البخاري على يد الحاج محمد يونس عبد الجبار-شيخ العرب والعجم- فعكف على تزكية النفس، ورياضة القلب، والاجتهاد في سبيل الحصول على درجة الإحسان، والربانية السليمة.
وبعد وفاته بايع الشيخ أبرار الحق –آخر وأجل خلفاء حكيم الأمة التهانوي- ثم بايع الشيخ إسحاق –مشرف جامعة دار السنة نهيلا، كوكسبازار- وكان من أجل خلفاءقطب الإرشاد إلى الفقيد المفتي عزيز الحق رحمه الله، وفي نفس الوقت منحه مرتبة “الإجازة والخلافة” في التصوف، فالشيخ البخاري يعد من أجل خلفائه.
أدبه وشعره:
وله يد طويلة في قرض الشعر وفن العروض، فأشعاره خالية عن السمج والتكلف،وأقرب إلى السذاجة والسهولة، وبعض أشعاره التي كتبها معراة (بالحروف المهملة غير المنقوطة)، فمنها القصيدة التي كتبها الشيخ في رثاء شيخه الخطيب الأعظم بالحروف المهملة باسم (دموع مع دماء)، وبعض أشعارها:
أَرْدى العَوالمَ مَوْصِلُ العلَّامِ
صَدْرِ الصُّدُوْرِ ورائدِ الإسلامِ
وحِمامُه -لا وَهْمَ- رَعْدٌ هَائِل
وَعَلى رُؤُوْسِ الدَّهْمِ كالصَّمْصَامِ
آهًا! لِداعٍ مُصْلح ومُسَدِّد
وَمُعَمِّر ومُعَمَّم الأَعْـمَام
مِدْرَارُ سِـرِّ الوَحْيِ سِرِّ الله
ومُحَصْحِص لِلْحِلِّ أَوْ لِحَرَام
ومُؤَوِّلٌ لِكلام أحمدَ، مَاهِر
ولِرُوْحِـهِ ومُرَادِه كإمـام
حَمَّادُ دَهْر، مُسْلِمٌ أَوْ حَاكِم
أو أَحْـمَدُ أَوْ مَالِكُ الأَعْوَام
لو سَاسَ دَلَّ على صِراط أَعْدَل
أَوْ رَدَّ سُـوْءَ الأَمْرِ للحُـكَّام
مَا رَاعَ طُوْلَ الْعُمْرِ لَوْمَ اللائم
أَعْـلَى لِـوَاءَ اللهِ للإسـلام
وَسَعَى لِطَمْسِ دَسَائِسِ الإِلْحَاد
لدُحُوْرِ رَسْمِ السِّـلْمِ والدِّمْدَام
وكلامُه السَّـحَّار، دُرٌّ أَوْحَد
مِرْسَامُه المَهَّارُ، وَصْلُ حُسَام
مؤلفاته:
من أهم ما طبع من مؤلفاته الكتب التالية:
1- تسهيل الطحاوي (شرح وتسهيل لما في شرح معاني الآثار للطحاوي) باللغة العربية، ثم نقل إلى الأردية وطبع.
2- تسهيل الأصول (رسالة صغيرة ألفت لتيسير أصول الفقه للمبتدئين) باللغة العربية، ثم نقل إلى الأردية وطبع. والكتاب يدرس في المدارس كمنهج للمبتدئين في أصول الفقه.
3- تسهيل الترمذي (شرح وتسهيل لما في سنن الترمذي) باللغة العربية، ثم نقلت إلى الأردية وسيطبع في ست مجلدات –بإذن الله-، ومن اطلع على ما فيه من الغرر والفوائد يدرك مكانة الشيخ حق الإدراك؛ ويعرف مدى حبه وعلاقته بالحديث.
عاداته وأخلاقه:
فلو أردت أن ترى رجلا فيه أثره من اسمه فانظر إلى الشيخ، فالشيخ حليم في طبعه كاسمه، ولو كنت تريد مثالا لقول القائل (إذا تم العقل نقص الكلام) فالشيخ فريد في قلة الكلام، ولو كنت تطلب مراد حديث (أملك عليك لسانك) فالشيخ هو عين مراده! ولو كنت تبغي مصداق الذي يعمل ب (من صمت نجا) فطول حياته خير شاهد عليه.
ومما يتعجب منه أنه يحترز دائما عن الاستقراض والإقراض لأنه قد قيل قديما (القرض مقراض المحبة)فلم يقرض ولم يستقرض طول حياته، وهذه من عاداته النبيلة، بل رأيناه بأن أحدا لو استقرضه فيعطيه شيئا من عنده عطية ويهدي له هدية، وهذه عادة بعض السلف أيضا، فقد مرَّ به أيام وهو جائع؛ لكنه منعه حياؤه عن مد يده عند الآخرين للاستقراض، وهذا إن دل على شيء فيدل على صبره وحلمه، وغنائه وإبائه وزهده في الدنيا وعفته عما في أيدي الناس، وكرمه بما في يده.
ولم يكن يغتاب أحدا أو يسمح بغيبة أحد في مجلسه، وقد قال بعض السلف: إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته، فلا يأتي فيها إلا الشيء الطيب.
وخطابه ومحادثاته كأنه جوهر مكلل بمختلف النكات والرموز، فحسن اختيار الكلمات وجودة التعبير وميزة الأسلوب وحلاوة اللسان جعله فائق أقرانه ومعاصريه ومحبَّباً إلى عامة الناس قبل خاصتهم، وأما تقويمه الشخصي لسلوكه، وأخلاقه، وآدابه، وعفته، وترفع نفسه، وما إلى ذلك فهذا يستحق أن يفرد بحديث، ولكن على سبيل الإجمال لو أن للفضائل والمكرمات والشيم وصفات الكمال في الرجال عنوان يجمعها لكان هو أحق به.
بارك الله في حياة شيخنا و ألبسه لباس الصحة والعافية؛ وحفظه عن كل مكروه وسوء وأعلى به الإسلام والمسلمين في أنحاء العالم.