نماذج اختلاف التنوع في صفة الصلاة على ضوء الأحاديث النبوية

نماذج اختلاف التنوع في صفة الصلاة على ضوء الأحاديث النبوية

محمد طه بن عبد المنان دانش

قد ظهر فينا أناس يزعمون أن كيفية العبادات عموما وصفة الصلاة خصوصا لا ينبغي أن يكون فيها أي خلاف واختلاف، وتجد عندهم نعرات يناشدون بها الناس إلى العمل بالكتاب والسنة ويدعونهم إلى نبذ الخلاف الفقهي حتى ولو كان خلافا معتبرا، فأحدثوا التمزق والفرقة بين أبناء المسلمين وهم يحسبون بذلك أنهم يحسنون صنعا! فمن هنا تجدهم يدعون الناس إلى العمل بالسنة الصحيحة في حين أن المدعوين أيضا يعملون بسنة أخرى صحيحة! ويحاولون به جمع الأمة على خط اجتهادي واحد! فيأتي هنا التساؤل: هل يمكن أن تكون صفة الصلاة مختلفة على ضوء الأحاديث الصحيحة؟

لا ريب أن الصلاة عماد الدين، نقلت إلى الأمة بطريق التواتر العملي وبأعلى مراتب التواتر،وكما أن الدين محفوظ غاية الحفظ، فالصلاة أيضا محفوظة غاية الحفظ، محفوظة أركانها وشروطها وهيئاتها وكيفياتها، فلا تجد في أصولها وأركانها أي خلاف واختلاف، فلا يليق بأحد أن يشك في حفظ الصلاة، ومما لا يخفى أيضا أن الفروق بين الصلوات التي يؤديها المسلمون في مختلف مناطق العالم والتي نشاهدها –نحن المسلمين- فكُلُّها إما في بعض التفاصيل الدقيقة والمستحبات التي يثاب فاعلها ولا يلام تاركها، وإما في تعيين الأفضلية والأولية؛ وليست في الأصول والأركان، وليست مما يضر بالخلل فيها في صلاة المصلي ، فهي فروق التنوع الجميل،ولجُلِّها –إن لم نقل لكلها- أدلتها الصحيحة، بعضها أصح من بعض، فلا يسوغ لأحد أن يقوم بحملة تصحيح صلاة الأمة، فإن محاولة تصحيح صلاة الأمة مستلزمة للتشكيك في صلاة الأمة، ولا شك إنها محاولة غير مشكورة.

فهذا المقال سوف يتحدث عن هذا التنوع الجميل في صفة الصلاة على ضوء الأحاديث الصحيحة والسنة الثابتة، وشرطي فيه أن أتناول كتاب الشيخ ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420هـ) –رحمه الله و عفا عنه- في “صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها” مقارنا بأصله الذي طبع في ثلاث مجلدات، فلا أريد نقد كتابه جملة وتفصيلا فإنه مما فعله العلماء والمحدثون؛ويفعله الباحثون على مرور الأيام، وإنما أردت إبداء اختلاف التنوع من خلال كتابه فقط،حتى يرى القارئ الكريم أن من يحاول تصحيح صلاة الأمة معتمدا على كتابه ويدعو الأمة إلى التحرر عن أي خلاف واختلاف، فإنه لا يمكن ذلك حتى ولو جعلنا كتابه إماما! و جعلنا اجتهاداته في مجال التصحيح والتضعيف والاستنباط في الفقه معصومة!!

فسوف يرى القارئ الكريم في كتاب الشيخ الألباني مسائل متنوعة هي من مسائل اختلاف التنوع في صفة الصلاة، ويرى أيضا أن هذه الكيفيات المختلفة ثابتة كلها بالأحاديث الصحيحة ، فماذا يفعل المصلي إذن؟ يعمل بكل الصور الثابتة أو ببعضها؟ أو يعمل ببعضها حينا وببعضها حينا آخر؟ أيا كانت الإجابة؛ تتلوها سؤال آخر: فلماذا هذا الاختلاف إذن بعد اللجوء إلى السنة الصحيحة أيضا؟ فهذا أوان الحديث عن بعض تلك المسائل على ضوء كتاب الألباني مما يختلف الأحاديث الواردة فيها ويبدو التعارض ظاهرا بين الأحاديث الصحيحة:

1- المسألة الأولى: إذا كان المصلي على راحلته ويريد التطوع، يصلي حيث وجهته راحلته، ولكن هل يجب عليه استقبال القبلة حال تكبيرة الإحرام أم لا يجب فيها الاستقبال أيضا؟

ففي حديث أنس بن مالك الذي أخرجه أبو داود أن رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلم – كان إذا سافر، فأراد أن يتطوَّعَ استقبل بناقته القبلةَ فكبَّر، ثم صلَّى حيثُ وجهه رِكابُه[1]

فالحديث صحيح حتى عند الألباني أيضا، وهو صريح الدلالة في أن المتطوع على الراحلة يستقبل القبلة في التكبير، ثم يصلي حيث وجهته راحلته؛ لكن حديث أبي داود هذا يخالفه أحاديث صحيحة مروية عند الشيخين في صحيحيهما، وذلك لأن سائر من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قِبَل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها[2]؛ مثل ما روي عن عبد الله بن عمر في الصحيحين[3] أنه قال:”كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! يُسَبِّحُ على الراحلة قِبَلَ أيِّ وجه توجه، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة”. ومثله حديث عامر بن ربيعة [4]، وجابر بن عبد الله وكلاهما عند البخاري في صحيحه [5]، و أحاديثهم أصح من حديث أنس هذا، ومع ذلك ترى الألباني يقول:”وهذا غير قادح في الحديث بعد أن ثبت إسناده؛ لأنه يجوز أن يكون قد علم ما لم يعلمه غيره، ومن علم حجة على من لم يعلم، ويجوز أيضاً أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يستقبل بناقته القبلة عند التكبير؛ بياناً لما هو الأفضل – كما رواه أنس -، وأحياناً لا يستقبل، بل كيفما تيسر؛ بياناً للجواز. وعليه تحمل الأحاديث الصحيحة التي أشار إليها ابن القيم، وبذلك يجمع بين الأحاديث، ولا يجوز ضرب بعضها ببعض. هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم”[6]. انتهى كلام الألباني.

2-المسألة الثانية:المتطوع في صلاة الليل إذا افتتح صلاته قاعدا هل يشترط أن يركع قاعدا، أو قائما فهل يشترط أن يركع قاعدا؟

فالراويات في هذا الباب مختلفة، ففي حديث رواه مسلم في صحيحه و أصحاب السنن الأربعة  عن عبد الله بن شقيق العُقيلي، قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل؟ فقالت:

“كان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ قائماً؛ ركع قائماً، وإذا قرأ قاعداً؛ ركع قاعدا”[7]  فالحديث صريح في أن الذي افتتح النافلة قائما، عليه أن يركع قائما وكذلك العكس، في حين أن الشيخين قد رويا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي جالساً؛ فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم ثم يركع ثم سجد يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك….، ومثله ما رواه عروة عنها كما عند مالك في “المؤطا”.

 فرواية أبي سلمة وعروة تدل على أنه لا يشترط ذلك للمتنفل، بل الذي قرأ قاعدا يجوز له الركوع قائما، في حين أن الحديث الأول الذي رواه مسلم عن عبد الله بن شقيق يخالفها، فقال الشيخ الألباني:” لا تعارض بينه – أي بين حديث عبد الله بن شقيق -وبين الحديث الذي بعده –أي بين حديث أبي سلمة وعروة-، بل كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل هذا تارة، وهذا تارة؛ كما ذهب إليه الحافظ ابن حجر؛ تبعاً لشيخه الحافظ العراقي..”[8] وقد قال ذلك الأئمة قديما كما في سنن الترمذي:” قال أحمد وإسحاق:والعمل على كلا الحديثين. كأنهما رأيا كلا الحديثين صحيحا معمولا بهما[9]

3.المسألة الثالثة: إذا افتتح المصلي صلاته بالتكبير يرفع يديه، فهل رفعه ليديه يكون مع التكبير أو قبل التكبير أو بعد التكبير؟

فالأحاديث المروية في هذا الباب مختلفة، وكلها صحيحة. فحديث ابن عمر الذي رواه البخاري[10] في “صحيحه” أنه قال: “رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه..” يدل على أن رفع اليدين في الافتتاح يكون مع التكبير ،وأما مسلم في صحيحه[11] فقد روى عن عبد الله بن عمر أيضاً قال:”كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبَّر …” فهذا حديث ثان يدل على أن رفع اليدين قبل التكبير، وهناك حديث ثالث عند مسلم أيضا في صحيحه[12]عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه: “أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا كبر؛ رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه..” يدل على أن رفع اليدين يكون بعد التكبير

فالأحاديث الثلاثة تدل على الكيفية الثلاثة: رفع اليدين مع التكبير، وقبله، وبعده، فماذا يفعل المصلي إذن؟

قال الشيخ الألباني:”والحق: أن كلاً من هذه الصفات الثلاث سنة ثابتة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فعلى المسلم أن يأخذ بها في صلواته، فلا يدع واحدة منها للأخرى؛ بل يفعل هذه تارة، وهذه تارة،وتلك أخرى”[13].

4.المسألة الرابعة: المصلي بعد افتتاح صلاته هل السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى أم السنة أن يقبض باليمنى على اليسرى؟

فحديث الوضع رواه البخاري في صحيحه”[14]كما أن حديثا آخر مما أخرجه النسائي[15] يدل على سنية القبض، ورجاله عند النسائي رجال مسلم[16]

فماذا يفعل المصلي إذن؟ هل يعمل بسنة الوضع ؟ أم بسنة القبض؟ ولا يخفى أن بين القبض والوضع فرقاً بيِّناً؛ فإن الأول أخص من الوضع؛ فكل قابض واضع، ولا عكس، قال الشيخ الألباني: “وبالجملة؛ فكما صح الوضع؛ ثبت القبض، فالمصلي بأيهما فعل؛ فقد أتى بالسنة، والأفضل أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة.”[17]

فهذه أربعة نماذج من اختلاف التنوع في السنة الثابتة الصحيحة من عشرات النماذج، وما أردت الاستيعاب، وقد سبق معنا أن الشيخ الألباني في تلك المواضع كلها اختار طريق التطبيق بين السنن المختلفة، ولم يهمل سنة بناء على سنة أخرى، ونحن نوافق الشيخ في استخدامه هذه الطريقة المأثورة عند التعارض بين مختلف الأحاديث، حتى لا يسلك أحد مسلك الأخذ بسنة دون سنة أخرى، وأن لا يشنع على من تمسك بإحداها اتباعا للسنة الصحيحة، ولكننا في نفس الوقت ندعوه ومن تبعه إلى استخدام نفس هذه الطريقة في الحالات التالية أيضا: (أ) إذا وجدنا حديثين مختلفين في مسألة، وكلا الحديثين صحيحان عند الشيخ الألباني أيضا،ولكن الشيخ سلك في الجمع بين الحديثين المختلفين مسلكا غير المسلك الذي مر معنا في النماذج المذكورة.

(ب) وكذلك الحال لما كان الحديثان مختلفان، وكلا الحديثين صحيحان وإن خولف الشيخ الألباني في تضعيف أحدهما.

ففي مثل تلك الأحوال مادام الحديثان صحيحان، فلو سلك أحد نفس المسلك المذكور أو قريبا منه، ويقول: أن هذه سنة ؛ كما أن تلك سنة ، والاختلاف اختلاف التنوع فقط،لا غير، فهل يجوز أن يشنع على هذا السالك و يُشَغَّب عليه بأنه مخالف للسنة!؟

هنا أُقدِّم مثالا واحدا من مئات الأمثلة حتى تكون المسألة أقرب إلى الفهم، وسوف أختتم به هذا المقال القصير بإذن الله، وهذا المثال هو مسألة رفع اليدين في غير تكبيرة الافتتاح: فقد ورد في الصحيحين[18] أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة؛ كبر، ورفع يديه، وإذا ركع؛ رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ رفع يديه، وإذا قام من الركعتين؛ رفع يديه.ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومثله عن مالك بن الحويرث وغيره.

وقد ورد ما يخالف تلك الأحاديث أحاديث أخرى صحيحة أيضا تدل على عدم سنية رفع اليدين في تلك المواضع، ومنها ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -كما عند أخرجه أحمد  أبو داود والترمذي [19] قال: “ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال علقمة: فصلى؛ فلم يرفع يديه إلا أول مرة.” فهذا حديث صحيح، قد صححه كثير من المحدثين النقاد بدأً من مثل الترمذي وابن حزم وغيرهما إلى الشيخ أحمد شاكر من المعاصرين. وإن حاول بعضهم الطعن فيه.

 وأما الشيخ الألباني فإنه وإن لم يذكر حديث ابن مسعود هذا في “صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها” حتى ظن بعض الناس من صنيعه أنه غير صحيح عنده، لكنه ذكر الحديث في ” أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها” الذي تم طبعه في ثلاث مجلدات، وصحَّحَ فيه هذا الحديث.بل أطال النفس في تصحيح حديث ابن مسعود و رد على من طعن فيه ردا بليغا، حيث قال الشيخ الألباني بعد هذا الحديث:” وهذا سند صحيح، رجاله رجال مسلم، وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن حزم،وخالفهم آخرون فضعفوه؛ …والحق أنه صحيح ثابت، لا مطعن في إسناده[20] انتهى كلامه

فلما صح-حتى عند الشيخ الألباني أيضا- الحديثان:حديث ابن عمر الدال على استحباب الرفع وحديث ابن مسعود الدال على عدم استحبابه فلماذا العمل بحديث واحد؟ ألا يجب على الشيخ ومن تبعه أن يعاملوا بهما معاملتهم مع النماذج التي تقدَّم ذكرها، وأن يقولوا هاهنا أيضا: “وبالجملة؛ فكما صح الرفع؛ ثبت العدم، فالمصلي بأيهما فعل؛ فقد أتى بالسنة، والأفضل أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة”! ، وأن يقولوا هنا أيضا: ” وهذا غير قادح في الحديث بعد أن ثبت إسناده؛ لأنه يجوز أن يكون قد علم ما لم يعلمه غيره، ومن علم حجة على من لم يعلم”!

ولكنه لم يفعل! فلم يفعلوا!!

وقد فعله السلف، فقالوا: إن رفع اليدين وعدم الرفع كلاهما صحيحان، فيكون الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع، فقال ابن حزم (المتوفى: 456هـ)، في ” المحلى” -بعد حديث ابن عمر في رفع اليدين-:”فإن قيل: فهَلاَّ أوجبتم بهذا الاستدلال نفسه رفع اليدين عند كل رفع وخفض فرضا؟ قلنا: لأنه قد صح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع، وأنه كان لا يرفع….عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة بن عبد الله بن مسعود قال: «ألا أريكم صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرفع يديه في أول تكبيرة ثم لم يعد» . فلما صح أنه – عليه السلام – كان يرفع في كل خفض ورفع بعد تكبيرة الإحرام ولا يرفع، كان كل ذلك مباحا لا فرضا، وكان لنا أن نصلي كذلك، فإن رفعنا صلينا كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي، وإن لم نرفع فقد صلينا كما كان – عليه السلام – يصلي[21] انتهى كلام ابن حزم، وسيأتي مثله عن ابن جرير الطبري (ت:321هـ) أيضا.

وعلى هذا قِسْ أيها القارئ الكريم جميع الكيفيات الثابتة في السنة الصحيحة مثل مسألة القراءة خلف الإمام، ومسألة الجهر بالتأمين، وكيفية وضع اليدين حال القيام ، والقنوت في صلاة الفجر كل يوم ، ونحو هذه المسائل ، فكلها من اختلاف التنوع ، ويسمى أيضا باختلاف المباح وبالاختلاف السائغ الذي يعود جميع ذلك إلى الاجتهاد في النصوص، في ثبوتها ودلالتها ، وذلك لا يضر بالصلاة ، ولا يؤثر على صحتها، لكنهم –للأسف الشديد-جعلوها مسألة الهجر والتبديع،ومسألة والولاء والبراء!

فهذا –حسب ما أرى-من الخلل في المنهج، خلل واضح في الدعوة إلى السنة وتطبيقها، خلل كبير في التعامل مع السنة والدعوة إليها،وأكثر الاختلافات بين الفقهاء الكرام في صفة الصلاة من الثاني؛وليس من الأول، فليس هناك أي فرق بين صفة صلاة النبي ﷺ وبين صفة الصلاة المعمول بها لدى الأمة، وإن صور الصلاة المنقولة عن الأئمة الفقهاء المجتهدين ليست نتاج اجتهادهم، إنما هي الصور التي كانت سائدة ورائجة في الأمة، وإن جميع الروايات الواردة في صفة الصلاة، إنما تمثل صفات الصلاة الصحيحة الشائعة في الأمة، ولذا ليس بينها أي تعارض.

وقد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية(ت: 728هـ) لما قال: “وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك؛ بل يشرع ذلك كله،كما قلنا في أنواع صلاة الخوف وفي نوعي الأذان:الترجيع وتركه ونوعي الإقامة:شفعها وإفرادها،وكما قلنا في أنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الاستعاذات وأنواع القراءات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو والقنوت قبل الركوع وبعده والتحميد بإثبات الواو وحذفها وغير ذلك، لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل؛ ولا يكره الآخر”[22]

وقال أيضا: “وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم: منهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت،ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء،ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من مس الذكر ومس النساء بشهوة؛ ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من القهقهة في صلاته ومنهم من لا يتوضأ من ذلك،ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض: مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرءون البسملة لا سرا ولا جهرا، وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد. وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك”[23]

ومثله تماما قال تلميذه ابن القيم(ت: 728هـ):”وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإقامة، وأنواع النسك من الإفراد والقران والتمتع”[24]

وقبلهما الإمام ابن جرير الطبري (ت:310هـ)، في “تهذيب الآثار”، فقد قال هذا الإمام النحرير كلاما ذهبيا يمكن أن يكون فصل الخطاب في هذا الباب، فقال الطبري:”نحن قائلون بتصحيحهما-أي حديث القنوت وتركه- وتصحيح العمل بهما، فإن قال-قائل-: وكيف تكون مصححا لهما وللعمل بهما، وأحدهما يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، والآخر منهما يخبر عنه أنه لم يره قنت، وكلاهما قد صلى معه؟ قيل: إنا لم نقل إنه لا بد من القنوت في كل صلاة صبح، وإنما قلنا: القنوت فيها حسن، فإن قنت فيها قانِتٌ فبفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل، وإن ترك ذلك تارك، فبرخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت فيها أحيانا، ويترك القنوت فيها أحيانا… وكذلك كان يجب أن يكون كل ما حكي عنه من اختلاف كان يكون منه في صلاته… وأن رفع اليدين في حال الركوع وحال رفع الرأس منه في الصلاة غير مفسد صلاة المصلي، ولا تركه موجب عليه قضاء ولا بدلا منه، إذ كان ذلك من العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمله أحيانا في صلاته؛ويتركه أحيانا، وكذلك ذلك في القنوت… وكذلك القول عندنا فيما روي عن أصحابه في ذلك من الاختلاف، فإن سبيل الاختلاف عنهم فيه، سبيل الاختلاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنهم كانوا يقنتون أحيانا على ما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وأحيانا يتركون القنوت على ما عهدوه يترك، فيشهد قنوتهم في الحال التي يقنتون فيها قوم، فيروون عنهم ما رأوا من فعلهم، ويشهدهم آخرون في الحال التي لا يقنتون فيها، فيروون عنهم ما رأوا من فعلهم، وكلا الفريقين محق صادق”[25] انتهى كلام الإمام الطبري باختصار.

وليس ذلك كلمة إمام أو إمامين فقط، بل هو لسان العلماء والمحدثين والفقهاء قديما وحديثا إلا من شذ، والشاذ ليس بشيء، فكيف يمكن القضاء على الاختلاف الذي توارث عليه عمل الأمة طوال التاريخ؟ وأَنّى لهم ذلك؟

أخيرا أَودُّ أن أوصي نفسي وإخواني أن نتعلم فقه الدعوة إلى السنة قبل بدء الدعوة إليها، وأن نتعلم شروطها وآدابها وأساليبها، وبذلك تكون الصلاة وسيلة لتوحيد كلمة الأمة وليس سببا لتفريق كلمتها.والله هو الموفق.

 

الكاتب:

باحث في مرحلة الماجستير بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وأحد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية فتية،شيتاغونغ،بنغلاديش.

[1]  سنن أبي داود ت الأرنؤوط (2/ 416) رقم 1225،  الصلاة، باب التطوّع في السفر ، وقال شعيب: “حديث صحيح، وهذا إسناد حسن”.

[2] يراجع: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 458) ابن القيم،محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت:751هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت – مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون،1415هـ/1994م

[3] صحيح البخاري، الصلاة، باب ينزل للمكتوبة، رقم الحديث (1087)، وصحيح مسلم،الصلاة، باب جواز الصلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، رقم الحديث (700)

[4] صحيح البخاري، الصلاة، باب ينزل للمكتوبة، رقم الحديث (1086)

[5] صحيح البخاري، المغازي، باب غزوة انمار، رقم الحديث (3991)

[6] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 63-64) الألباني، محمد ناصر الدين الألباني،مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ، الرياض، الطبعة الأولى 1427 هـ – 2006 م

[7] صحيح مسلم،الصلاة، باب جواز النافلة قائما وقاعدا ، رقم الحديث (730)

[8] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 104)

[9] سنن الترمذي،الصلاة، باب من يتطوع جالسا،تحت حديث رقم (373)

[10] صحيح البخاري، الأذان، باب يرفع يديه، رقم الحديث (729)

[11] صحيح مسلم،الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو منكبيه مع تكبيرة الإحرام، رقم الحديث (390)

[12]صحيح مسلم،الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو منكبيه مع تكبيرة الإحرام، رقم الحديث (392)

[13] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 198-199)

[14] صحيح البخاري، الأذان، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، رقم الحديث (731)

[15] السنن الصغرى، للنسائي، في الصلاة، باب وضع اليمنى على الشمال في الصلاة، رقم الحديث (886)

[16] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 211)

[17] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 215)

[18] صحيح البخاري، الأذان، باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين،رقم الحديث(730) وصحيح مسلم، الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو منكبيه مع تكبيرة الإحرام، رقم الحديث (390)

[19]أخرجه أحمد في مسنده (1/388) رقم الحديث(3681) ، وكذا أبو داود في سننه، الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، رقم الحديث (748) والترمذي في سننه، الصلاة، باب رفع اليدين عند الركوع، رقم الحديث (257)

[20] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 611)

[21] المحلى بالآثار (2/ 264-265) ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن حزم القرطبي الظاهري ،دار الفكر – بيروت

[22] مجموع الفتاوى (24/ 242-243) ابن تيمية،تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني،تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم،مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة ، السعودية، 1416هـ/1995م

[23] المرجع السابق(23/ 374-375)

[24] زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 266)

[25] تهذيب الآثار، مسند ابن عباس (1/ 387) ابن جرير الطبري،محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني – القاهرة.

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on linkedin
LinkedIn