بناء المجتمع البشري المعاصر على هدي السيرة النبوية

بناء المجتمع البشري المعاصر على هدي السيرة النبوية

الحافظ محمد جعفر الصادق

من مايبدو لمن يقف على أوضاع المجتمع المعاصر حيث أنه ينحدر إلى غاية الانحطاط بسرعة عجيبة، وتقع فتن كقطع الليل، تنتشر في المجتمع الراهن ظواهر إجرامية بصورة تكاد لايخلو منها الناشئون،كما نعلم بأن ألقينا النظر في وسائل الأعلام من الجرائد اليومية، والشهرية، ومواقع التواصل الاجتماعي من فيسبوك، وانترنت وما مثلها.وأما الجرائم التي تفسد أخلاق الناشئين فمنها القتل والزنا، والاغتصاب والخيانة،والربا والرشوة، وهتك حرمة الوالدين من الأولاد، وسوء السلوك مع المعلمين في المدارس العصرية والجامعات الرسمية. وأعجب ذلك أن القواد والرؤساء الذين زينوا كرسي الرئاسة لإصلاح المجتمع يتهمون بهذه الجرائم المعارضة للإنسانية، بل كان يحرص كثير من أساتذة الجامعات الحكومية على الاستغلال الجنسي مع الطالبات، ويحبس كثير منهم لارتكابهم بالغلول الاقتصادي والمفاسد الأخلاقية، فصارت صورة المجتمع الراهن والأوضاع السياسية أخطر وأبشع حيث يذكرنا ماحدث في المجتمع الجاهلي من الجرائم الأخلاقية التي اسودَت بها صفحات التاريخ الإنساني، وصارت أمثلة لأخبث الأحوال الاجتماعية كالزنا والاغتصاب، والقمار والخمر، ووأد البنات والربا، والإغرام بالحرب وغيرها.

والزنا لم يكن نادرا ولا يكرهه أحد،فكان من عادات الجاهلية أن يتخذ الرجل خليلات وتتخذ النساء أخلاء بدون عقد،وقد كانو يكرهون بعض النساء على الزنى،قال ابن عباس:كانوا في الجاهلية يكرهون إمائهم على الزنى يأخذون أجورهن 1

وإن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أوجه،فمنها نكاح الرهط،وطريقه أن يجتمع زمرة الرجال فيدخلون كلهم على المرأة يجامعها فإذا حملت ووضعت ومرّعليها ليال بعده أرسلت إليهم فلم يستطع أحد منهم أن يمتنع حتى يجتمعواعندها.فتقول لهم:قد عرفتم الذي كان من أمركم،وقد ولدتُ فهو ابنك يافلان! تسمي من أحببت بإسمه فيلحق به ولدها لايستطيع أن يمتنع منه الرجل.2 وكانت شاعت في الجزيرة العربية الغارات وقطع الطريق على القوافل حتى يخاف الرجل أن يخرج منفردا لعدم الأمن والسلام فلا يسافر إلاأرسالا، وكان شرب الخمرمما شاع واشتد رسوخه منهم حتى كثرت أسماءها وصفاتها مبلغ عددها إلى مائة، و كثر فيهم التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب ،وكانت دكاكين الخمارين مفتوحة دائما يرفرف عليها علم يسمّى غاية ، وكانت من شيوع تجارته أن اصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر.

وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهلية حيث قال شاعر جاهلي:

أعيرتنا ألبانها ولحومها + وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

نحابي بها أكفاءنا ونهينها + ونشرب في أثمانها ونقامر.

قال قتادة:كان الرجل في الجاهلية يقامرعلى أهله وماله ،فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يد غيره،فكانت تورث بينهم شحناء وعداوة (تفسير الطبري: في تفسير إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة)

وأما المرأة في المجتمع الجاهلي فكانت  في أخطرحال وأخسر بال حيث كانت عرضة خدعة وجور، تؤكل حقوقها، وتوزع أموالها، وتحرم ميراثها، ولا تسمح أن تنكح زوجا تشتهي بعد وفاة زوجها بل تورث كما يورث الأثاث والدابة قال تعالى:لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَاتَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ (النساء 19)

والبنات تعتبرن مما يحتقر وينفر حتى بلغت الكراهة إلى حد الوأد،قال الهيثم بن عدي :علي ما حكاه الميداني أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة فجاء الاسلام ،وكانت مذاهب العرب مختلفة،فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن،ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء،أو سوداء،أو برصاء،أوعرجاء تشاؤماَ منهم بهذه الصفات.

وكان الربا ظاهرة فاشية في أهل الحجاز (العرب واليهود)حتى كانوا يقومون بالغلووالقسوة فيه قال العلامة الطبري: كان الربا في الجاهلية في التضعيف والسنين ،يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له:تقضيني أو تزيدني فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوَله إلى السنين فوق ذلك (التفسير الطبري) ومن العجب أن الربا رسخ منهم وجرى مجرى الأمورالطبيعية حتى لايفرقون بينه وبين التجارة وقالوا: إنما البيع مثل الربا.

كانت العصبية القبلية والدموية مما تمتاز به العرب من الأخرين،وأغرموا بالحرب حتى كانت تعد من أهم أسباب التسلية لهم وأيضا صارت لهم ملهى وهواية،ينتزهون للتسلية وقضاء هوى النفس،وهانت لهم إراقة الدماء فيثيرها أمر تافه وتدوم الحرب أربعين سنة ويقتل فيها ألوف.

فلا تعب لأولي العقل السليم أن يجدوا من تصويرأوضاع المجتمع الجاهلي أنه بلغ إلى أي درجة من الانحطاط الخلقي،والسقوط الإنساني، والتدهور الاجتماعي، فما أحسن ما قال المفكر الإسلامي أبو الحسن علي الحسني الندويرح: لما كانت الإنسانية في الاحتضار فبعث الله نبيه إلى العرب لإنقاذهم من هذه الظلمات الجاهلية إلى نورالمعرفة الربانية والبيئة الإيمانية.

فايجاز الكلام أن القرن السادس والسابع الميلادي من أحط أدوار التاريخ الإنساني دون نزاع،لأنها متدلية منحدرة منذ قرون وما على صفحة الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من الضياع ،فقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وقربها من الأمورالدنية.فكان الرسول صلى الله عليه وسلم كور ذلك المجتمع المظلم وصيره مجتمعا نموذجيا محلّى بالصداقة والأمانة والإخلاص والمحبة،وكان اتخذ لبنائه خطوات ثلاثة:1- إثارة الأحاسيس في النفوس الإنسانية بعد تزكيتها 2- دفع الوسائل التي تغري الإنسان على ارتكاب الجريمة 3- تشريع قانون المعاقبة عند ضخامة الجريمة ،فتمكنَ من تحويل مجتمع العرب بهذه الخطوات الثلاثة وجعل قاتل الإنسانية حاجبا لها.

والإيضاح عنها في التالي: أنه عليه السلام اعتنى أولابتزكية النفوس الإنسانية وترسيخ العقيدة الصحيحة في قلوب الإنسان،فقد سعى سعيا بالغا ليتصفوا بالتقوى والقيام بالرحمة والعدل  والتسامح والتعايش وحفظ الكرامة الآدمية ويضطربوا ليوم يفرّ المرأمن أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه،كما روي عن أبي أمامة  قال: إن فتي شاباً أتي النبي فقال: يارسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا له: مه مه! فقال له: (ادنه)، فدنا منه قريباً، قال: (أتحبه لأمك؟) قال: لاوالله، جعلني الله فداءك، قال: (ولاالناس يحبونه لأمهاتهم). قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لاوالله جعلني الله فداءك. قال: (ولاالناس يحبونه لأخواتهم). قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لاوالله، جعلني الله فداءك. قال: (ولاالناس يحبونه لعماتهم). قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لاوالله جعلني الله فداءك. قال: (ولاالناس يحبونه لخالاتهم). قال: فوضع يده عليه،وقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهرقلبه، وحصن فرجه)، فلم يكن بعد ذلك الفتي يلتفت إلي شئ (3)

…….  وثانيا سدّ باب العصيان بتشريع أحكام إسلامية كشرع الحجاب وكراهية تاخير النكاح لمن يستطيع ذلك،وحرم خلوة الأجنبية مع الأجنبي فلا يسمح الإسلام أن تسافر المرأة دون محارمها،ولو كان للعبادة وتلقي العلوم الإسلامية والأشغال الخيرية واخراها،وكذا حرّم شرب الخمر مع صنعها وتجارتها كي لا يسهل الحصول عليها ،لأن نيلها إن كان عسيرا فيحترز عنها من تأثربها تدريجا حتى يعتاد تركها وهذا معقول كما علمنا القرْان الكريم هذه الحكمة المعقولة بصدد تحريم الخمر، حيث قال تعالى: أولا يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للناس ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ،فأخيرا حرّمها قطعا بقوله إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون. وثالثا طبّق القانون ونفّذ الحدود الشرعية لمن لايحترزعن التعدي،والطغيان بالدعوة مع الحكمة والموعظة الحسنة،لأن رُب عاصٍ لا يستقيم طبعه إلابتقوية القانون التنفيذي،وقد سار مثل سائر واقعي في هذا الصدد: لايستقيم الحديد إلا بالحديد،وإن ألقينا النظر إلى ظروف المجتمع الراهن فيجلو لنا جلاء النهار أنه صار عكس ذلك حيث نشر الفساد في جميع نواحي الحياة الإنسانية وسلب السكون والامن والقرار منه بصفة عامة كما لايخفي لدي اهل الخبرة والتجربة والباحثين في المجتمع البشري

فعلى أولي الأحلام المؤمنين أن يهتموا بالسيرة النبوية دراسة واتباعا وتطبيقا في مراحل الحياة الإنسانية كلها لأنها الدليل العملي لأحكام الإسلام الذي لا يحتمل التاويل وإنها تمثيل للنموذج الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم وهكذا أن يقوموا بتفكير جديد وشعور كبيرونهضة إيمانية لتطهير المجتمع المعاصر من هذه الأدناس الخلقية،ويتخذوا خطوات فكرية لتطويره وتثقيفه بالثقافة الإسلامية والحضارة الدينية فيمكن أن يحوّل المجتمع المظلم المنهبط مجتمعا مثاليا يغشى أهله بالنور والرحمة الربانية والتعايش السلمي وحفظ حقوق الناس ومثلها من الأخلاق النبوية

الكاتب : استاذ الأدب العربي والدراسات الاسلامية

بالجامعة الإسلامية فتية، شيتاغونغ، بنغلاديش.

المدير المساعد : لمجلة بلاغ الشرق.

1 – تفسير الطبري ص 401

2 – الصحيح للبخاري 5127

3 – أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي أمامة  256،257/5 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلي الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح، 129 /1، وانظر: سلسة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 370، ج1

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on linkedin
LinkedIn