الغزْو الفكري ضدّ الأمّة المسلمة: دراسة وتحليل
الاستاذ محمد صادق الله إدريس الرحماني
التـقديم:
الحمد لله جلّ وعلا، والصلاة والسلا م على محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فإن الجهاد بين أهل الإسلام وأعدائهم لم يضع ولن يضع أوزاره، وهو ماضٍ إلى أن تقوم الساعة، وقد أمرنا بمواصلته، قال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي الله حَقّ جِهَاده}(١)، {وَقَاتِلُوهُمْ}باستمرار دون توقف{ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِله}(٢).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة…) (٣).وذلك لأن أعداء الإسلام يضعون لحربه كل يوم وسيلة، ويحشدون في وجهه كل يوم قوّة، وليس خطر الغزو الفكري بأقل من خطر السلاح في المعارك التي يشنها الأعداء على الإسلام وأهله، ولأجل ذلك أسماه المفكر الإسلامي أبو الحسن علي الندوي رحمه الله ((معركة فكرية)) (٤) فحسب. إنهم الآن يشنون حربا ضروسا هي أشد وأقسى على المسلمين من حرب السلاح بعشرات المراحل، إنهم يشنون حربا ضد القرآن والسنة، وضد شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وضد منهج الإسلام وتاريخه، وضد رجاله ولغة قرآنه، إنهم يحاربون المسلمين في إيمانهم وعقيدتهم وأخلاقهم وسلوكياتهم ومبادئهم ومعنوياتهم وذاتيتهم وخصائصهم وفي حضارتهم وثقافتهم وأفكارهم ومشاعرهم، وأزيائهم وأنماطهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولهم مخططات ضخمة وتصاميم دقيقة لضرب الإسلام من الداخل والخارج، ونقل الفكر البشري من أصالة الفطرة، وطريق التوحيد، وطابع الإيمان بالله تعالى، ومنطق العقل السليم، وقمة الحضارة الأصيلة، إلى الوثنية والإلحاد، والإباحية، وتفسخ الأخلاق، والعادات السيئة، والمبادئ الفاسدة،وهوة الحضارة الفظيعة. وهي حروب ودعوات تستمد أصولها من مخططات التلمود، وبروتوكولات حكماء صهيون، وأفكار ابن سبأ، ووقف اليهود المغضوب عليهم والنصارى الضالون والبوذيون الشيوعيون والهندوسيون العلمانيون المتطرفون يؤيد بعضهم بعضا، وتتكالب الأمم علينا وتتداعى كما تداعى الأكلة إلى قصعتها لقتالنا، وكسر شوكتنا، وسلب ما ملكنا من الأموال والديار، وقد صدق رسول الله ﷺ حين أخبرنا:((يُوشِك الأمم أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأكلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا))، فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذ؟ٍ قَالَ:(( بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ))، فَقَالَ قَائِل: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَن؟ُ قَالَ:(( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))(٥).ونظرا إلى خطورة الغرو الفكري وأبعاده، وما حققه من نتائج الخراب والدمار فى بلاد المسلمين عربا وعجما، وماأثار من شبه ومطاعن، وما أحدثه من تفكك وتمزق وزعزعة المجتمع المسلم ووإيقاف الدعوة الإسلامية، وشدة شراسة هجومه وجناياته على الأمة المسلمة في العصر الحديث— أعتقد أنه يجب علينا أن ننهض به وفق ما يأمرنا به ديننا الحنيف، واشعر بضرورة البحث والفحص، والتفكر والدراسة العميقة في الموضوع؛ لحفظ الأمة من براثن هذا الغزو الخطير وإثباتها فى وجهه، وأرى ضرورة نفذ من مخططات وممارسات؛ لإحباط خططه ومؤامراته، وبيان سبل مواجهته وحماية الأمة من آثاره السيئة في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة، وضرورة وضع استراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته. ومنذ البدء أوصي أهالي المجالس والمدارس والأمانات والمؤسسات الإسلامية لمقاومة هذا الغزو الهدّام، والوقوف في وجه أباطيله، ودحص شبهاته، وكشف زيوفه، باستمرار الاهتمام بطرح أهم قضايا هذا الموضوع في لقاءاتهم وندواتهم، ودروسهم ومحاضراتهم، وكتاباتهم وخطاباتهم، حفاظا على الأمة وعقيدتها، وحضارتها وتراثها، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. وإنني أحاول-بكل ما في وسعي- في هذا المقال اكتشاف حقيقة الغزو الفكري وطرق مقاومته -إن شاء الله تعالى- مركزا على الأمور التالية:
مقدمة تحتوي على أهمية الموضوع وخطورته:
الصراع بين الحق والباطل
إن الصراع بين الحق والباطل في كل عصر ومصر وقديم قدم البشرية، وسنة من سنن الله في الحياة، ولقد كان العالم قبل الإسلام يموج بدعوات وتيارات فكرية هدامة، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام وفيه البيان الشافي الكافي لكل ما يحتاجه البشر لتحقيق وظيفتهم على الأرض، وهي عبودية الله تعالى، وتحصيل أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، فكانت رسالة نبينا محمد عليه السلام رحمة من الله للناس لتخليصهم من تلك الجاهليات التي جثت على قلوبهم ولوثت أفكارهم دهرا طويلا، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(٦). ولم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا وقد تحول الإسلام ما فيه من عقائد وتعاليم وأخلاق إلى واقعي حي، تظهر مظاهره وثماره في الأفكار والقلوب والسلوك، وبعد عهد النبي ﷺ رسخ الخلفاء الراشدون هذا الواقع ووسعوا دائرته بالفتوحات الإسلامية، سعيا لتخليص البشر من الجاهليات ومانتج عنها من ظلم وشقاء وما هي إلاسنوات قليلة حتى دخل كثير من الناس في دين الله أفواجا، فحل الأمن والعدل مكان الخوف والظلم، ونتج عن ذلك أعظم حضارة عرفتها البشرية. إلا أن الانتصار السريع في المجال العسكري، لم يكن نهائيا فقد كان أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين ومن يتعاونهم يخططون لجولة ثانية من الحرب اتخذت من الفكر ميدانا لها بعد أن أدرك قادتها قوة تأثير الأفكار على السلوك، وأن الحرب الفكرية هي السبيل الوحيد المتاح لها في ذلك الوقت لمقاومة الإسلام، وتفريق أهله وإضلالهم.ولقد اختار الله هذه الأمة لحمل راية الإسلام، والوقوف في وجه الباطل، ودحض الشبهات، وكشف الزيوف.ولاريب أن الإسلام بمفهوم الصحيح، مازال وسيظل–بإذن الله–صامدا أمام الأحداث،ومواجها لكل الأفكار الباطلة، والمذاهب المنحرفة، حتى يتضح وجه الحق، وينكشف زيف الباطل، وهذه الدعوات المعادية للإسلام إنما وجدت طريقها حين حرف الدين في بيئات الغرب، وفصل بين الدين والحياة، وضاعت مفاهيم الالتزام الأخلاقي. وقد فات الذين طرحوا هذه المذاهب والأفكار في البيئات الإسلامية أن هذه المذاهب إنما نشأت في بيئات خاصة بها، ومن خلال تحديات مختلفة…، وأن العقيدة الإسلامية لها منزلتها وقيمتها الأصيلة، التى تعارض فصل الدين عن الحياة، والتى تنكر أن يكون الإنسان مادة فقط، والتى تفرق بين شريعة الله وقوانين البشر، وتنكر الوساطة بين الله تعالى وخلقه، أو إطلاق الحرية من جميع ضوابها، أو معارضة عالم الغيب والبعث والجزاء، وترى أن هذا كله إنما يراد بالبشرية لتحطيم الجدار القوي الذي تستند إليه في علاقتها بالله تعالى، ومن ثم السقوط في أحضان استعباد البشر، والعبودية للمخططات التلمودية المتطلعة إلى السيطرة على العالم الإسلامي بعد تطيم قيمه، وأخلاقه ومقدراته، وتلك أخطر المخططات التى تجتاحها البشرية اليوم، والتى طرحت فى السنوات الأخيرة أنواعا من الدعوات والمذاهب والفلسفات المضللة، بالأساليب والوسائل الساقطة، وكلها تقصد الإسلام، فهو القوة الوحيدة التي تستطيع أن تصمد في وجه الإلحاد والوثنية والمادية والإباحية وغيرها من المذاهب الباطلة، والمسلمون مطالبون دائما بإقامة دينهم، واليقظة تجاه أعدائهم، والتصدي لكل القوى التي تحاول أن تفت في عضدهم، أو تفسد مقوماتهم وتحطم معنوياتهم(٧)، قال الله عز وجل:{(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِج فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِير}(٨).
تحليل الموضوع:
الغزو الفكري مصطلح حديث ظهر في القرن الرابع عشر الهجري(٩)، يقصد به الغزو عن طريق الأفكار، يتركب من كلمتين، وهما:
١—الغزو: هو قصد الشيء وإرادته وطلبه.
قال في القاموس:((يقال: غزاه غزوا: أراده وطلبه وقصده))(١٠).
وفي المعجم الوسيط:(( غَزَا العدوَّ غَزْوًا، وغَزَوَانًا: سار إِلى قتالهم وانتهابهم في ديارهم… غَزَا الشيءَ غَزْوًا: طلبه وقصده. يقال: عَرَفْتُ ما يُغْزَى من هذا الكلام: ما يُرَاد. وأغزاه: جهزه للغزو))(١١).
٢— الفكري: الفكر: هو إعمال النظر في الشيء لحله أو إدراكه. وجاء في المعجم الوسيط:((الفِكْرُ: إِعمالُ العقلِ في المعلوم للوصَول إلى معرفة مجهول. يقال: لي في الأمر فِكْرٌ: نَظَرٌ ورويَّةٌ)).
وفي المصباح المنير للفيومي:((الفكر: تردد القلب بالنظر والتدبر لطلب المعاني…))(١٢)، وجمعه أفكار.
الغزو الفكري لغة:
ومن هنا نستطيع أن نقول بأن الغزو الفكري في اللغة: قصد الشيء وإرادته وطلبه مع تردد القلب وإعمال النظر بروية.
الغزو الفكري اصطلاحا:
عرف الباحثون الغزو الفكري بتعريفات عدة، وبتعابيرهم الخاصة، وعلى قدر وجهة أنظارهم، ومن خلال النظرة الواقعية يمكننا أن نقسمه إلى النقطتين:
١— الغزو الفكري العام:
محاولة إخضاع أمة لأخرى عن طريق تغيير أفكار الأمة المغزوة واستدراجها لاعتناق أفكار الأمة الغازية حتي تصير تبعا لها، ومنقادة لما تأمرها به أو توجهها إليه. أو هو بعبارة أخرى: مجموعة جهود تتخذها أمة من الأمم ضد أمة أخرى لتغيير أفكارها وقيمها ومعتقداتها أو لتوجيهها إلى وجهة معينة(١٣).
٢—الغزو الفكري الخاص:
مجموعة الجهود والهجمات الفكرية المتلاحقة من قبل أعداء الإسلام ذات الصلة بتاريخ المسلمين وحاضرهم، التى تطرح شبهات وأفكارا مزيفة تستوعب تراث الإسلام وأحوال المسلمين، وتستخدم الوسائل والأساليب التى يراها مناسبة؛ لإبعاد غير المسلمين عن اعتناق الإسلام وأفكاره، وقبول مناهجه وتعاليمه، وإزالة مظاهر حياة الأمة الإسلامية وتبديد مستقبلها، وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام وعقائده وأفكاره وأخلاقه وتعاليمه وأنماطه وسلوكياته وذاتيته وخصائصه وإضعاف قواهم، واستعمار بلدانهم، وتخريب أقطارهم، والقضاء عليهم في جميع الميادين التعليمية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وما إلى ذلك. (يتبع…)
الكاتب: عضو أكاديمية البحوث القرآنية داكا، بنغلاديش