وقفة مع مسألة التكبير للقنوت

وقفة مع مسألة التكبير للقنوت

محمد طه بن عبد المنان دانش

فإنه مما يتكرر السؤال من بعض الإخوة  وهو مسألة التكبير للقنوت؛ هل هو سنة أم أنه بدعة لا أصل له؟ وكنت أتعجب من مثل هذا السؤال حول هذه السنة الثابتة في الشريعة الغراء ثم إنني رأيت بعض المنتسبين إلى العلم  يواجهون هذه السنة بالسخرية كأنها لم تثبت، ولعل ذلك هو ما اشتهر هذا التكبير بين العوام عندنا في شبه القارة الهندية بتكبير العكس (الٹی تكبير)  فظن هؤلاء أن مثل هذا التكبير لا وجود له في الشريعة، وأن هذه بدعة ، فيا للجهالة! فأمر ثابت في الشريعة بأدلتها أتتغير حكمها بمجرد تغيير العوام اسمه ؟ ولم يدر هؤلاء –جهلا أو تجاهلا- أن هذا الاسم علَّمهم من علَّمهم للفهم والتفريق بين التكبيرات فقط ، كما تسمى تكبيرات العيدين بالتكبيرات الزائدة، فأيا كان الأمر؛ وإنني لما بدأتُ أبحث عن المسألة تعجبتُ لما رأيتُ إماما ومحدثا من أهل القرن الثالث قد سئل نفس هذا السؤال وبنفس سياق هؤلاء- في الجملة – وهو الإمام أبو جعفر الطحاوي المتوفى سنة 321هـ  فإنه قال في كتابه”شرح مشكل الآثار” ما نصه :

“فقال قائل ممن ينكر القنوت قبل الركوع : قد وجدتُ هؤلاء الذين يقنتون قبل الركوع يزيدون في هذه الصلاة تكبيرة لم نجد لها أصلا، ولا يجوز أن يزاد في الصلوات ما لا يوجد له أصل[1].

 فكان جوابنا له في ذلك: أن الذين زادوا هذه التكبيرة قد وجدوا لها أصلاعن رجلين جليلين من المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود”[2] اهـ.
 نعم الأمر كما حكاه الإمام الطحاوي، فإنه مما ثبت –بإسناد صحيح-عن عدد من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يكبرون تكبيرة ثم يستفتحون القنوت، بمعنى: عند الانتهاء من قراءة السورة وإرادة الشروع في القنوت يأتون بالتكبير ثم دعوا بدعاء القنوت – وهذا سواء كان القنوت بعد القراءة أو بعد الركوع، وسواء كان في قنوت النوازل أو قنوت الوتر، وسواء كان في الفرض أم الوتر، وهذا أوان التفصيل، فأقول وبالله التوفيق:

أولًا: التكبير للقنوت في الفرض
والذي وقفت عليه ثلاثة آثار، أثران عن خليفتين راشدين: أحدها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والآخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأثر آخر عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عمر بن الخطاب الْفَجْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ كَبَّر، ثُمَّ قَنَتَ، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ رَكَعَ.
مدار هذا الأثر على مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ به.

 أخرجه الإمام عبد الرزاق الصنعاني  المتوفى سنة 211هـ عن الثوري في “المصنف”[3] ، ومن طريقه ابن المنذر المتوفى سنة 311هـ في “الأوسط”[4].

 وهذا الإسناد رجاله ثقات.

وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”[5] فقال: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حدَّثَنَا سُفْيَانُ…

 وهذا الإسناد أيضًا رجاله ثقات.

ومثله أخرجه الطبري في “تهذيب الآثار” بطريق أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبزى، قال: صليت خلف عمر رضي الله عنه صلاة الغداة، فلما فرغ من قراءة السورة في الثانية، كبر ثم رفع صوته: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق»[6]

وفي رواية أخرى عند الطبري أيضا عن الحكم، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبيه أن عمر رضي الله عنه «كبر حين فرغ من القراءة في الركعة الثانية، ثم قرأ هاتين السورتين، ثم كبر حين ركع»

 وكذلك رواه الطحاوي في “شرح معاني الآثار”[7] وفي “شرح مشكل الآثار”، والبيهقي في “السنن الكبرى” مختصرًا، وذكره المروزي في “مختصر قيام الليل”
هذا، وقد تابع الثوري ابن عيينة كما عند عبد الرزاق الصنعاني في “المصنف”[8] ، وشعبة كما عند الطبري في “تهذيب الآثار” مختصرًا، والطحاوي في كتابيهما”شرح معاني الآثار” وفي “شرح مشكل الآثار” ، و كذا تابعه شعبة وإسرائيل بن يونس كما عند الطحاوي في في كتابيهما.

ومن أجل هذا وذاك صحح الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لمشكل الاثار ومحمد بازمول هذا الإسناد[9] ويقول الإمام الطحاوي في “مشكل الآثار” : “فهذا عمر أيضًا قد كبر للقنوت قبل الركوع”
أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أ- عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا كَبَّرَ حِينَ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ وَكَبَّرَ حِينَ رَكَعَ.

مدار هذا الأثر على عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ به،

أخرجه عبد الرزاق الصنعاني عن الثوري في “المصنف”، وابن أبي شيبة في “المصنف”، ومن طريقه ابن المنذر في “الأوسط”[10]

وهذا الأثر إسناده ضعيف؛ فيه عبد الأعلى، وهو: ابن عامر الثعلبي الكوفي، صدوق يهم، كما في “التقريب[11]”  لكن الشيخ محمد بن عمر بازمول يقول: ” إسناده حسن”[12].
ب- وجاء عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقُنُوتَ بِالتَّكْبِيرِ. 
أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف” ، فيه الحارث وهو: ابن عبد الله الأعور الهمداني الخارفي فى حديثه ضعف، كذبه الشعبى فى رأيه، ورمي بالرفض كما في “التقريب”[13]، وفيه أيضا ابن أبي ليلى وهو: محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، أبو عبد الرحمن الكوفي،الفقيه قاضي الكوفة ، صدوق سيئ الحفظ جدًا كما في “التقريب”[14] .

أثر البراء بن عازب رضي الله عنه:
عن مطرف بن ظريف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب أنه قنت في الفجر فكبر حين فرغ من القراءة ثم كبر حين فرغ من القنوت.
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني عن الثوري في “المصنف” ومن طريقه ابن المنذر في “الأوسط” وابن أبي شيبة في “المصنف” وهذا الإسناد رجاله ثقات.[15]
وهذا الأثر رفعه عبد الله بن واقد الحراني وهو: متروك، وكان أحمد يثني عليه وقال: لعله كبر واختلط وكان يدلس كما في “التقريب”[16] وأخرج ابن أبي شيبة في “المصنف” قال: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي الْجَهْمِ، قَالَ: كَانَ الْبَرَاءُ يُكَبِّرُ قَبْلَ أَنْ يَقْنُتَ.[17]
ثانيًا: آثار التكبير للقنوت في الوتر:
والذي وقفت عليه ثلاثة آثار أيضا:  أحدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثاني عن عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، والثالث البراء بن عازب رضي الله عنه.

أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقُنُوتَ بِالتَّكْبِيرِ [18]
أثر عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:
عَنْ الأَسْوَدِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ ثُمَّ قَنَتَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقُنُوتِ كَبَّرَ ثُمَّ رَكَعَ.
هذا الأثر مداره ليث، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه به،

أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”، ومن طريقه ابن المنذر في “الأوسط” والطبراني في “المعجم الكبير”[19] بلفظ “كان يكبر حين يفرغ من القراءة ثم إذا فرغ من القنوت كبر وركع

قال الهيثمي في “مجمع الزوائد ومنبع الفوائد”[20] : “رواه الطبراني في الكبير وفيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة ولكنه مدلس”

 وليث وهو: ابن أبي سليم بن زنيم القرشي، صدوق اختلط جدا، ولم يتميز حديثه فترك لكنه له متابع عند الطحاوي في “مشكل الآثار”من طريق مسروق والأسود، وأصحاب عبد الله قالوا: كان عبد الله لا يقنت إلا في الوتر، وكان يقنت قبل الركوع، يكبر إذا فرغ من قراءته حين يقنت.
وهذا الأثر أيضا فيه أبو إسحاق وهو: السبيعي، ثقة مكثر عابد، اختلط بأخرة ، وحديج بن معاوية صدوق يخطئ كما في “التقريب”
هذا الأثر حسنه الأرنؤوط محقق “مشكل الآثار”[21] ، ولعله يرتقي لدرجة الحسن لغيره بالأثر الذي قبله، والله أعلم.
أثر البراء بن عازب رضي الله عنه:
عَنْ أَبِي الْجَهْمِ، قَالَ: كَانَ الْبَرَاءُ يُكَبِّرُ قَبْلَ أَنْ يَقْنُتَ.
أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”

وهذا الأثر إسناده أقل أحواله حسن، فيه محمد بن فضيل بن غزوان، صدوق عارف، رمي بالتشيع كما في “تقريب التهذيب”
وهذا أيضًا ذكره ابن أبي شيبة في باب التكبير في قنوت الفجر من فعله؟ وهو كما ترى جاء مطلقًا غير مقيد بقنوت الفجر، وقد عقد محمد بن نصر في قيام الليل لذلك بابا فقال:

باب التكبير للقنوت، عن طارق بن شهاب أن عمر بن الخطاب لما فرغ من القراءة كبر، ثم قنت، ثم كبر وركع، يعني في الفجر وعن علي، أنه كبر في القنوت حين فرغ من القراءة وحين ركع. وفي رواية: كان يفتتح القنوت بتكبيرة وكان عبد الله بن مسعود يكبر في الوتر إذا فرغ من قراءته حين يقنت، وإذا فرغ من القنوت وقال زهير، قلت لأبي إسحاق، أتكبر أنت في القنوت في الفجر؟ قال: «نعم» وعن البراء: «أنه كان إذا فرغ من السورة كبر ثم قنت» وعن إبراهيم، يقوم في القنوت في الوتر، إذا فرغ من القراءة، ثم قنت ثم كبر وركع وعن سفيان، «كانوا يستحبون إذا فرغ من القراءة في الركعة الثالثة من الوتر أن يكبر، ثم يقنت» وعن أحمد، «إذا كان يقنت قبل الركوع افتتح القنوت بتكبيرة»

ثم بوَّب أبو نصر المروزي بابا آخر يؤكد فيه على التكبير للقنوت وإن كان بعد الركوع، فقال: باب من كبر للقنوت بعد الركوع، كان سعيد بن جبير يقنت في رمضان في الوتر بعد الركوع، إذا رفع رأسه كبر ثم قنت، وعن شعبة، سمعت الحكم، وحمادا، وأبا إسحاق يقولون في القنوت: «إذا فرغ من الركوع كبر ثم قنت»[22]
 وقد ثبت هذا التكبيرعن بعض التابعين وأتباعهم أيضا في قنوت الوتر: مثل ما مر عن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وشعبة والحكم وحماد وأبي إسحاق وسفيان وأحمد وغيرهم.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: إذا كان يقنت قبل الركوع افتتح القنوت بتكبيرة..[23]
ومع كل هذا وذاك يستغرب من المباركفوري في ” تحفة الأحوذي”[24] قوله هذا: “واعلم أن الحنفية اختاروا القنوت قبل الركوع فإذا كانوا يريدون القنوت قبل ركوع الركعة الثالثة يكبرون ويرفعون أيديهم كرفع اليدين عند التحريمة ثم يقنتون أما التكبير فيستدلون على ثبوته ببعض الآثار، وقد عقد محمد بن نصر في قيام الليل لذلك بابا فقال باب التكبير للقنوت….”

 ثم ذكر هذه الآثار عن مختصر قيام الليل كما هي عنده بدون الأسانيد ثم عقبه المباركفوري  قائلا :

“قلت:- المباركفوري- لم أقف على حديث مرفوع في التكبير للقنوت ولم أقف على أسانيد هذه الآثار”

أقول: – والله الموفق- أن كلام المباركفوري فيه نظر من عدة وجوه، وإنني لا أدري أن أسانيد هذه الآثار الكثيرة  كيف خفيت على مثل المباركفوري مع أنها في دواوين السنة المعتمدة المشهورة عند العامة والخاصة قديما وحديثا مثل ابن أبي شيبة و عبد الرزاق في مصنفهما والطحاوي وابن المنذر وابن جرير الطبري والطبراني والبيهقي وغيرهم،  ولا أدري كيف يسوغ له الإنكار على رفعه مع أن المحدثين اتفقوا على أن مرويات الصحابة الموقوفة  الثابتة  إذا لم يكن مما لا مجال للرأي فيها داخلة في المرفوع حكما، كما هو معروف عند علماء الحديث والمصطلح، فهذه الآثار وإن كانت موقوفة في ظاهرها فإنها مرفوعة في حكمها وحقيقتها، ولأجل ذلك قال الإمام الطحاوي – بعد رواية أثر علي بن أبي طالب وابن مسعود في التكبير للقنوت-: “فكان هذا مما يعلم أن عليا وعبد الله لم يقولاه استنباطا، ولا استخراجا، إذ كان مثله لا يقال بالاستنباط ولا بالاستخراج، وإنما يقال بالتوقيف الذي وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه، فكان ذلك عندنا لا يجب تركه، ومما يجب أن يحمد عليه قائلوه. ثم قد وجدنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما قد شد هذا المعنى أيضا في قنوته في صلاة الصبح قبل الركوع فيها“.

وقال أيضا:

أن الذي قد ذكرناه عن علي، وعبد الله، وشده ما رويناه بعده عن عمر، لما كان لم يقل استنباطا ولا واستخراجا قد صار في حكم المحكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حكى شيئا حفظه كان أولى ممن قصر عنه. والله نسأله التوفيق”[25].

وقال المباركفوري نفسه في “تحفة الأحوذي”[26] – وهو يتكلم عن حديث عائشة في قصر الصلاة في السفر- :”ويجاب عنه بأنه من قول عائشة غير مرفوع، …وفي هذا الجواب نظر؛ أما أولا فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع”

فهذه الآثار مما لا يعلم اجتهادا فيكون له حكم الرفع البتة. ولتوضيح المسألة ومعرفة آراء الفقهاء أكثر أقول:  إن في محل القنوت من الوتر وجهان:

أحدهما: بعد الركوع، وبه قال أصحاب الإمام الشافعي، والثاني: قبل الركوع، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ وأما الإمام أحمد فيصح عنده الوجهان[27]

لكن الشيخ ناصر الدين الألباني لما استعرض في “أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم” جميع الأدلة الواردة حول القنوت في الوتر هل هو قبل الركوع أم بعده؟ ذكر –ما خلاصته- أن الأحاديث الدالة على قنوت الوتر قبل الركوع صحيحة، وأما الأحاديث التي تدل على قنوت الوتر بعد الركوع لا تصح منها شيء، ثم قال: “هذا، وكون قنوت الوتر قبل الركوع هو مذهب الحنفية، وهو الحق الذي لا ريب فيه؛ إذ لم يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافه، وهو المروي عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود..”[28]

 فلما ثبت –من قول الألباني أيضا- أن قنوت الوتر محله الصحيح الثابت هو قبل الركوع، ولما يقنت مصلي الوتر قبل الركوع فماذا يفعل إذن؟ فهل يواصل قنوته بقراءته؛ أم يفصل بينه وبين قراءته بتكبيرة؟ والثاني أي بدء القنوت بالتكبير هو القياس ، وعليه وردت الآثار الصحيحة وهو عمل عدد من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- بل هو الذي نقله ابن قدامة المقدسي الحنبلي(620هـ ) في ” المغني”عن الإمام أحمد بن حنبل وينكر فيه عن وجود الخلاف في المسألة، فقال : “وقال أبو عبد الله إذا قنت قبل الركوع كبر ثم أخذ في القنوت وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من القراءة كبر ثم قنت ثم كبر حين يركع وروي ذلك عن علي وابن مسعود والبراء وهو قول الثوري ولا نعلم فيه خلافا[29]

وقد أحسن الحافظ العيني (855هـ) حين فصَّل المسألة في”البناية شرح الهداية” تفصيلا ، فقال:

 “(وإذا أراد أن يقنت كبر) ش: يعني مصلي الوتر إذا فرغ من القراءة في الركعة الثالثة كبر، خلافا لبعض أصحاب الشافعي. وقال أحمد: إذا قنت قبل الركوع كبر ثم أخذ في القنوت. قال في ” المغني ” لابن قدامة، وقد روي عن عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أنه كان إذا فرغ من القراءة كبر، ومن يقنت بعد الركوع يكبر حين يركع، ونقل عن المزني أنه قال: زاد أبو حنيفة تكبيرة في القنوت لم تثبت في السنة ولا دل عليها قياسه، وقال أبو نصر الأقطع: هذا خطأ منه، فإن ذلك روي عن علي وابن عمر والبراء بن عازب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – والقياس يدل عليه أيضا، وأشار إليه المصنف بقوله م: (لأن الحالة قد اختلفت) ش: أي لأن حالة المصلي قد اختلفت؛ لأنه كان في حالة قراءة القرآن ثم ينتقل إلى حالة قراءة القنوت والحالتان مختلفتان، والتكبير في الصلاة عند اختلاف الحالة مشروع كما في حال الانتقال من القيام إلى الركوع ومن القومة إلى السجود”[30].
وهذا شيخنا الشيخ محمد بن عمر بازمول من كبار محدثي العصر من علماء السعودية،له مصنف لطيف، عنوانه: “الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر رواية ودراية” يتأسف على هجر أهل الحجاز هذه السنة أي التكبير للقنوت، فيقول فيه –بعد إيراد بعض هذه الآثار-: “نعم ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن البراء رضي الله عنه في قنوت النازلة في الفجر، وعليه فإنه يشرع في قنوت الوتر إذا فرغ من القراءة وأراد القنوت قبل الركوع أن يكبر قبل القنوت وبعده، وهذا من السنن المهجورة اليوم إلا ما رحم ربي” انتهى كلام الشيخ بازمول- حفظه الله- .
وتزداد في نفسك أهميته لما ترى تبويب هؤلاء الأئمة الكبار بالعناوين التالية مثل ابن أبي شيبة (ت235هـ) في “مصنفه” (باب فِي التَّكْبِيرِ لِلْقُنُوت)، والمروزي (ت294هـ ) كما في “مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر” (بَابُ التَّكْبِيرِ لِلْقُنُوتِ بَابُ مَنْ كَبَّرَ لِلْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوع)، وابن المنذر (ت318هـ) في الأوسط لابن المنذر (ذكر التكبير للقنوت إذا كان القنوت قبل الركوع(

ولما ثبتت مشروعية التكبير للقنوت وسنيته بهذه الآثار الصحيحة وبتوارث العمل به من لدن أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وخاصة إذا كان يقنت قبل الركوع فإنه يفتتح القنوت بتكبيرة، والقياس الصحيح يؤيده،  فلا تلتفت إلى ما قيل أو يقال حول هذه السنة الثابتة،هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الكاتب: باحث في مرحلة الماجستير بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وأحد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية فتية شيتاغونغ.


[1] ولعل الطحاوي بقوله هذا يشير إلى اعتراض الإمام المزني الشافعي على الحنفية كما سيأتي نقل كلامه.

[2] شرح مشكل الآثار للطحاوي (11/ 373)، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة المصري المعروف بالطحاوي (ت 321هـ)،تحقيق شعيب الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة ،الطبعة: الأولى – 1415 هـ، 1494 م.

[3] مصنف عبد الرزاق الصنعاني (3/ 109)   أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، المجلس العلمي- الهند، الطبعة: الثانية، 1403

[4] الأوسط لابن المنذر(5/214) رقم الحديث 2706 ، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، (ت318هـ)، تحقيق خالد السيد ومحي البكاري، دار الفلاح، الفيوم، الطبعة الثانية 1436هـ- 2015م.

[5] مصنف ابن أبي شيبة ط السلفية (2/ 315)، رقم الحديث 7106 ، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي الكوفي (ت 235 هـ)، تحقيق محمد عوامة، الدار السلفية الهندية القديمة ودار القبلة.

[6] تهذيب الآثار مسند ابن عباس (1/ 351-352) رقم الحديث 596، 597، محمد بن جرير ، أبو جعفر الطبري (ت 310هـ)

تحقيق محمود محمد شاكر ، مطبعة المدني – القاهرة

[7] شرح معاني الآثار (1/ 250) رقم الحديث 1480 ،  أحمد بن محمد أبو جعفر الطحاوي (ت321هـ)،دار الكتب العلمية – بيروت ، الطبعة الأولى، 1399

[8] مصنف عبد الرزاق الصنعاني (3/ 115) رقم الحديث  4979   

[9] الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر رواية ودراية، ص28 ، د. محمد بن عمر بن سالم بازمول ، الأستاذ المشارك بقسم الكتاب والسنة كلية الدعوة وأصول الدين – جامعة أم القرى ،الطبعة الموافقة للشاملة.

[10] الأوسط لابن المنذر(5/214)

[11] تقريب التهذيب ص 390، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ) تحقيق محمد عوامة ، دار الرشيد – سوريا، الطبعة الأولى، 1406 – 1986

[12] الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر رواية ودراية حاشية ص 17

[13] تقريب التهذيب ص 180

[14] تقريب التهذيب ص 575 ، قال فضيلة الشيخ محمد بازمول حاشية (ص 17): ((إسناده ضعيف. وثبت مقيدًا بالفجر،أخرجه ابن أبي شيبة (2/316) فيه الحارث الأعور والنضر بن إسماعيل كلاهما في حديثه ضعف)) اهـ

[15] قال فضيلة الشيخ محمد بازمول في “الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر” حاشية (ص 29): وإسناده صحيح.

[16]التقريب ص 387

[17] قال فضيلة الشيخ محمد بازمول في رسالته هذه حاشية (ص 29): إسناده صحيح.

[18] قد مر معنا قريبًا، أن إسناده ضعف. وثبت مقيدًا بالفجر.

[19] المعجم الكبير للطبراني (9/ 243) رقم 9192 سليمان بن أحمد بن أيوب ، أبو القاسم الطبراني (ت 360هـ) ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ،الطبعة الثانية

[20] مجمع الزوائد (5/187) رقم الحديث 2850 أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر، الهيثمي (ت 807هـ) تحقيق حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة ،1414 هـ، 1994 م.

[21] شرح مشكل الآثار (11/374)

[22] مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (ص: 318-319)

[23] مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 101) تحقيق: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد ،مكتبة ابن تيمية، مصر

الطبعة الأولى، 1420 هـ – 1999 م

[24] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي  (2/ 463) أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى (ت 1353هـ) ،دار الكتب العلمية – بيروت

[25] شرح مشكل الآثار (11/ 374)

[26]  تحفة الأحوذي (3/ 85) وينظر أيضا منه  (3/ 472)

[27] يراجع: البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 269) ، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 185)، المغني (1/ 832)

[28] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 970)، محمد ناصر الدين الألباني (ت1420هـ) ،مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض ،الطبعة الأولى 1427 هـ – 2006 م

[29] المغني (1/ 832) دار الفكر – بيروت ،الطبعة الأولى، 1405،  ويراجع أيضا: بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية (4/ 69)، وفي ” فقه السنة (1/ 196) :”وإذا قنت قبل الركوع كبر رافعا يديه بعد الفراغ من القراءة وكبر كذلك بعد الفراغ من القنوت، روي ذلك عن بعض الصحابة”.

[30] البناية شرح الهداية (2/ 492) أبو محمد محمود بن أحمد الحنفى، بدر الدين العينى (ت855هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان ،الطبعة الأولى، 1420 هـ – 2000 م

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on linkedin
LinkedIn