الحج : دروس وعبر

الحج : دروس وعبر

بقلم :  فضيلة الشيخ المفكر الإسلامي الكبير محمد عبد الحليم البخاري

إن ركن الحج إلى بيت الله الحرام وإن جاءت رتبته في حديث أركان الإسلام آخر الرتب، إلا أنه جامع لما في الصلاة من روحانية، ولما في الصوم من صبر ومشقة، ولما في الزكاة من بذل وإنفاق، فكأنه تدريب على جميع العبادات، وهكذا يعود على المسلم بوافر من الفيوضات الربانية، والنفحات الإلهية، ولذا عظم النبي صلى الله عليه وسلم أجره،   بقوله: ((تابعوا بين الحج و العمرة فإنهما تنفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد و الذهب و الفضة))، فالحج غفران للذنوب، وخلاص من الفقر؛بالبركة التي يعجلها المولى تعالى في مال الحاج،  ويقول صلى الله عليه وسلم:(( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، ولو لم يستفد الحاج من حجه إلا هذا لكفاه

ومن دروس الحج   غرس مفهوم التوحيد في قلوب الحجاج حيث التلبية التي يرددونها من المواقيت تشمل معاني التوحيد  ونفي الشرك واثبات الحمد والنعمة لله عزوجل، و  تمثل التوحدي في ركعتي الطواف  حين يقرأ المسلم في اولاهما سورة ” الكافرون “وفي الأخرى سورة الإخلاص كما تمثل التوحيد في خير الدعاء وهو دعاء يوم عرفة حينما قال صلى الله عليه وسلم” خير الدعا دعاء يوم عرفة وخير ما قلت انا والنبيون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير (رواه الترمذي )

ومن دروس الحج العظيمة أن يستعذب الحاج المشتقات-مهما زادت- في سبيل القيام باطاعات، ولما كان الحج أكثرها مشقة وجهدا، فمن أتى به كان الإتيان بما دونه من العبادات عليه أسهل، وقد ورد:((أفضل العبادة أحمزها))، أي: أكثرها مشقة وتعبا، ولذا كان بعض السلف يفضلون المشي في طريق الحج، ولعلهم لاحظوا تقديم ذكره في القرآن الكريم على الركوب حين قال تعالى:( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)( الحج:27) وفي الحج تدريب على التسامي عن رغبات النفس وشهواتها، عندما ينخلع الرجل من أهله وأولاده ووطنه، ويتعرض لمشقة السفرو بعد الطريق ونصبه، لا لشيء إلا ابتغاء رضوان الله تعالى ومحبته،( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج:32).

ومن بالغ عبر الحج ودروسه أن عبودية الناس لخالقهم تتجلى في أظهر صورها وأوضح معانيها عندما يأتي الحاج بتلك المناسك التي لا يدرك مغزاها ومعناها، ولكنه إنما يفعلها امتـثالا لأمر الله تعالى واقتداء بنبيه الكريم- عليه الصلاة والتسليم-، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقبل الحجر الأسود: ((لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ ، مَا قَبَّلْتُكَ))وهذه هي الطاعة الكاملة من كل ذي قلب خالص، فالحاج أثناء الطواف يقبل حجرا، ويطوف سبعة أشواط بحجر، ويسعى بين حجر وحجر، ويقف بعرفة على حجر، ويرمي بمنى حجرا بحجر، فهو- وإن لم يعقل المعنى- يلتزم الطاعة والتسليم، ولسان حاله يقول:( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285).

ومن دروس الحج وعبره أنه يذكر الحاج بالتقشف والتقلل من زينة الحياة الدنيا عندما يتجردفي ثوبين غير مخيطين، وهوغيرمغط لرأسه ولامتقنع، فهل هوبحاجة في لباسه إلى أكثر من ذلك؟ إن حاجته إلى مايستر سيئاته من حاجته إلى مايستر سوءاته، ومثلهما الثوبان اللذان يلف فيهما بعد وفاته، فإنه لايخرج من الدنيا بأكثر منها، يقول تعالى:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) (الأنعام:94).

وفي مشاركته لإخوانه الحجاج في هذا المظهرما يكسبه خلق التواضع عندما يرى أنه لا يفضلهم بشيء، فلايرى الغني حرجا في أن يقف بجانب الفقير، والقوي بجانب الضعيف، قد اجتمعوا على أداء منسك الحج، والوقوف في موقف واحد لافرق بين أبيض ولا أسود ولا ذي حسب ونسب على من دونه، راجين من ربهم أن يتجاوز عن سيئاتهم ويعطف، وما أشبه انتشارهم بكل فج وطريق، وامتلأ بهم كل متسع ومضيق بيوم العرض والنشور، يوم يجتمع الناس حفاة عراة غرلا كما ولدتهم أمهاتهم،  ارتعدت الفرائص، وبلغت القلوب الحناجر، ونادى الظالمون ولات حين مناص، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37)، فحين ترى الحجاج يمشون طوائف طوائف، تذكر انبعاث كل قوم وراء إمامهم يوم الوعيد،( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (الإسراء:71).

الكاتب : رئيس الجامعة الإسلامية فتية شيتاغونغ، وامين عام هئية اتحاد المدارس الأهلية بنجلاديش

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on linkedin
LinkedIn