طغيان المادية علي القيم يهلك الأمم
محمد إنعام الحق سراج
قبل الدخول في صلب الموضوع نريد إلقاء الضوء علي بعض الكلمات الغامضة في العنوان حتي تكون المقالة سريعة الفهم لدي القراء الاعزاء، قال صاحب معجم اللغة العربية المعاصر: طغيان هو مصدر طغي، طغي لغة (1) جاوز الحد (2) بالغ في العصيان (3) بالغ في الظلم وغيرها.
والمادية قال عنها صاحب معجم المعاني الجامع : هي اسم منسوب الي المادة، معناها مقابل للروحي أو المعنوي، يقال فكر مادي اي الفكر القائل بأن المادة وحدها أساس الوجود واما القيم قال عنها صاحب القاموس المحيط: هي الفضائل الدينية والخلقية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة المجتمع الإنساني
تاريخ الطغيان عبر العصور ومصيره
ما أحسن هذا الكون! وما أجمل مناظره الخلابة! وما أحلي نعيمه! أوجده الله تعالي بكل فن من فنون الجمال وأعطي فيه شيئًا من أشياء الكمال، بسط الله الأرض بساطا وجعل فوقها بحارًا ونهارًا، جبالاً وأشجارا، ونعيمًا مدرارا، وأودع تحتها ما يفيد الناس كثيرًا من الذهب والفضة والنفط والزيت والمياه والحديد والأشياء المعدنية الأخري، ورفع سماءها بغير عمد وزينها بزينة الكواكب وشيدها بشهاب ثاقب، وغطاها بالمجرات والسدم، ماأحسن قول الله جل و علا ” أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (1) هذه التدبيرات الهائلة والتسهيلات الفائقة كلها لبني الجن والإنس وأماهم خلقوا لعبادة الله وحده، قال الله تعالي : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. (2)
هذا إعلان صريح من الله سبحانه وتعالي بأن مهمتهم في الدنيا هي عبادة الله فقط، ولكن الدنيا خدعتهم بجمالها وروعتها علي مراالعصور وكر الدهور, صرفت معظمهم عن عبادة الله واستمالتهم اليها قلبا، ولعب الابليس اللعين فيها دورا كبيرًا, فانغمس الناس في ملذات الدنيا وفي متطلبات البطون والفروج وأعرضوا عن عبادة الله حتي ارتكبوا في عبادة الأوثان والأصنام بعد أن كانوا مؤحدين وعلي الصراط المستقيم الذي أرشد إليه أبونا آدم عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما ” كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم علي شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين” (3) لماانزلقت أقدام الناس عن جادة الطريق فقد من الله علي البشرية بإرسال سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام، إنه بذل قصاري جهوده لهدايتهم، قد صور القرآن الكريم نشاطاته الدعوية وإعراضهم عنها بصورة رائعة، قال الله تعالي حاكيا عن نوح عليه السلام : قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا. (4) فلم يجب دعوته الا نزريسير من ضعفاء قومه، لما أشاح قومه بوجههم عن دين الله وطغوا وبغوا وتخلوا عن جميع القيم الدينية أذاقهم الله نكالاً شديدًا، أخبر الله عنهم قائلا :” مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا” (5) هكذا دمر الله قوم نوح وجميع ما يملكونه بالمياه الطاغية، وكذلك أباد الله أمما كثيرةً عبر العصور والقرون لما تخلت عن شرع الله وقيمه، سجل القرآن الكريم كثيرًا منها، مثل حادثة قوم عاد وثمود ولوط وشعيب وقصة فرعون وقومه وقصة قارون، من أراد تفاصيلها فاليراجع إلي القرآن الكريم وليراجعه بدقة، كان جزائهم من الله جزاء مولما محزنا مفجعًا، لو فكرنا في أسباب استحقاقهم لتلك العقوبة الصارمة لوجدنا من أبرزها الفكرة المادية ونشأ منها الشغف الزائد بالمادة والاستمتاع بها والإعراض عن خالق المادة وشرعه وقيمه.
نشاطات الأنبياء والرسل الدعوية باختصار:
يريد الله دائمًا الخير لعباده والإحسان إليهم، فارسل الله إليهم الأنبياء والرسل في الفترات التاريخية المناسبة، ليطهرهم من مرض المادية العضال، ومن هذه السلسلة الذهبية بعد نوح سيدنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسي وداؤد وسليمان وزكريا ويحي وعيسي عليهم السلام، كلهم قدموا ما في وسعهم من المحاولات الجادة لإنقاذ أقوامهم من غي المادية ولهدايتهم إلي خالق المادة وإلي الحياة السرمدية الرغيدةو قال الله تعالي : ” وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ. (6) ولكن الأغلب والأكثر من الناس في كل عصر ومصر قد بائوا بالفشل في استجابة دعوة أنبيائهم والإعراض عن جاذبية المادة، ومع ذلك أن الله لم ينته عن الرأفة بالبشرية والرحمة عليهم، وفي الأخير قد من الله علي الإنسانية بإرسال سيد الكونين والثقلين وخاتم الرسل وإمام الكل محمد بن عبد الله-صلوات الله وسلامه عليه- قال الله سبحانه وتعالي : “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”(7) إنه رحمة مهداة من الله تعالي إلي البشرية جمعاء، فبلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في الله حق جهاده ولم يخف في الله لومة لائمين وضحي بنفسه ونفيسه ليخرجهم من المادية المهلكة إلي سفينة الإسلام المنجية، حتي قال الله تعالي عنه : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا”(8) استجاب لدعوته السعداء والمحظوظون من الناس وأعرض عنه الأشقياء والمغبونون منهم، أعرب رسول الله – صلي الله عليه وسلم – عن حزنه العميق وحسرته الأليمة لأولئك الأشقياء قائلاً: “مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي” (9)
قد صنع رسول الله – صلي الله عليه وسلم – بقيمه الإلهية الفاضلة جيلاً ساميًا.
ماهي القيم التي ربي بها رسول الله – صلي الله عليه وسلم- جيله الطاهر؟
نجد جوابه في الخطبة التي ألقاها جعفربن أبي طالب رضي الله عنه أمام النجاشي ملك الحبشة حين طلبه ومرافقيه وفد قريش، بدأ جعفر رضي الله عنه خطابه قائلاً: “أيهاالملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام وننسي الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا علي ذلك حتي بعث الله إلينا رسولا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، ثم دعانا إلي الله لنوحده ونعبده ونخلع ماكنا نعبد نحن وأبائنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث أداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام”. (01)
كلما تقدم الزمان وابتعد المسلمون عن عصر النبوة بدأوا يميلون إلي المادية الزائلة فضلاً عن الكفار، ولما دخل الناس في العصر الحديث عصر التكنولوجيا خلع كثير من المسلمين ربقة الإسلام عن عنقهم باسم الحداثة والتقدم والرقي حتي استوي بعض المسلمين بالكفارفي الميل إلي المادية معرضين عن جميع القيم – معاذ الله عن هذا الخطب الجلل-
بعض المظاهر المادية: نقدمه بكل إيجاز تجنبًا عن الإطالة (1) الإلحاد (2) الشرك بالله (3) قتل الأبرياء (4) غصب المناصب (5) غصب أموال الناس (6) أكل الربا (7) أكل مال اليتيم (8) شرب الخمر وتناول المخدرات المتنوعة (9) تفشي السفور والمجونة (10) انتشار الأفلام والمسرحيات الماجنة والخليعة (11) والجور والعدوان علي الضعفاء (12) والزناء واغتصاب النساء (13) الرشوة (14) البخس في الميزان (15) الكذب (16) الخيانة (17) الغش (18) عقوق الوالدين (19) قطيعة الرحم (20) السرقة وقطع الطريق. هذه كلها جريمة نكراء، مجلبة لغضب الله وسخطته، حرمها الإسلام حرامًا باتًالحماية المجتمع من الفساد والضياع ولإقامة العدل والمساواة والطهر والعفة بين أفراده، ولكننا نشاهد الآن في هذا العصر الحديث استهان بهاالناس، ويرتكبون فيها بعدم المبالاة بل بعض المسلمين أيضًا يرتكبون في المحارم تحت ستار القانون وباستخدام رجال القانون ثم يفتخرون بها- العياذبالله والعياذ بالله.
تهديد الهلاك: قال الله تعالي :” وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” (11) وقال تعالي أيضًا :” وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (12)
* عن أم المؤمنين زينب رضي الله تعالي عنها قالت :” قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم اذا كثر الخبث” (13) معني الخبث: الفسوق والفجور ويطلق علي كل فاسد وقبيح من القول والعمل.
وفقنا الله تعالي جميعًا للرجوع إلي حظيرة الإسلام من جديد ووقانا برحمته وكرمه من الهلاك والدمار الشديد.
المصادر والمراجع :
سورة الغاشية: 20-17، سورة الذاريات: 58-56، رواه الحاكم في مسدركه ، سورة نوح: 6-5، سورة نوح : 25، سورة فاطر : 24، سورة الأنبياء : 107، سورة الكهف : 6، رواه مسلم، سيرة ابن هشام، سورة الإسراء : 16، سورة الأنفال : 25، متفق عليه
الكاتب: أستاذ الحديث النبوي والدراسات العليا،
بجامعة دار المعارف الإسلامية، شيتاغونغ، بنغلاديش