تصوير طليعة الارشاد : المفتى عزيز الحق– طيّب اللّه  ثراه – (الحلقة الاخيرة)

تصوير طليعة الارشاد : المفتى عزيز الحق– طيّب اللّه  ثراه – (الحلقة الاخيرة)

محمد جسيم الدين

وأخذ التحسن فى أمور دنياه وعقباه يتدرج فى المراتب آنا فآنا بنحو إرشاده ونصيحته السديدة البليغة وجه كليا اهتمامه إلى شؤون الرياضة الروحية بالترابط العميق معه إلى انتصاف السنة، ثم أخذ الطريق إلى الموطن من غير أن يهجر الشيخ واعتلاقاته الناشبة الوطيدة، ولا ينفك يتبادل معه الإرشاد والاتعاظ عبر الخطوط والرسائل حتى ثافن وبايع الامام الأكبر ” ضمير الدين ” الهاتهزاروي سنة ثلث وخمسين وثلثمأة بعد الألف للهجرة النبوية حرصا على الاستفادة المزيدة الهائلة على تهذيب الاخلاق النفسية بملازمة العبادات والتخلي عن الشهوات،  فبينما هو يتصعد نشاطاته المنبعثة على مر الأيام إلى أعلى مدارج الكمال وزروة المجد والرفعة إذ تمس أيديه يوما ـ بفصل الله ـ فوز برقصة السماح من عند الشيخ الامام الأكبر الوقور

ولما كان الفقيد قفل من الهند، وقدم الموطن عينه شيوخه وأساتذته الشفقاء فى منصب التدريس والإفتاء بالمدرسة الإسلامية العربية بجيري ـ التي تدرس هناك طوال عقد من حياته التعلمية الطويلة ونشأ صاحب غزارات فى عدة فنون من أول حرفه خرج من فيه-  وقد لقيوه بترحاب كبير، وحفاوة بالغة، فشرع يشتغل بشؤون التعليم والتربية بنشاط وعزيمة زهاء عشر سنين من غرة الحياة العملية المرضية، دفع له هنا جراء إلقاء الدرس كتب باهظة، صعبة التدريس، عسيرة المسائل ، التي لا تسلم عادة عند بدء التدريس إلى أمثاله فى العمر لامحالة، فرحمه الله، إنه يقوم بذلك من التعليم والتربية طريقة مبتكرة سهلة، مما يجعل الطلبة يغرس فى قلوبهم حب الدراسة والأدب مركزا ويقوى الصلاحية والهواية العلمية لدرجة أنه لا يحتاجون يلوذون بما يتحلى بالشروح من التعليقات والحواشي بصفة تامة بالغة، حيث كان يلقي إليهم دروسا من تلك الكتب-التي فوض إليه- بناصعة، خلابة ، ماتعة ، وحمله مسئولية تلقين الدرس من أمثال كتب: شرح التهذيب “وملاحسن ” والهداية  “وتفسير الجلالين ” والصحيح لمسلم، كان انشغف بها بعناية فائقة بكل الإتقان والدقة والإمعان، وكانت من مزايا درسه الجذاب: فإنه كان يلتزم دربا فى غضون إلقاء الدرس وحل معضلات الكتاب سهلا بديعا رشيقا، مما لم يجعل بعدئذ قلق واضطراب أياكانت للطلاب فى إتقان الدرس وفهم مسائل الكتاب، حتى كان كل بذلك يطمئن مرتاح البال، ويتطور موهبتهم بحيث أنهم أصبحوا يطوقون فهم وتفهيم الكتاب حتى لو كان ذلك مما لم يتمنونه قط، ولم يمثل بين أيديهم فيما مضى -من الأيام التي انصرمت- بدون معونة أستاذ ومساعدة معجم، كأن الفهم يسود كل المستويات من الأغبياء والمتوسطين والأذكياء متواصلا، مستمرا، فيصيرون أولى استعداد كامل وكفاءة عالية مركزة إلى حد جسيم، فلذا طبق صيته الحسن المعانق إلى آفاق الشرق والغرب من الناس، مثلما كانت سمعته الذكاوية والفطانية الطيبة له تروج منذ تحصيل العلم فى صباحه الباكرفلما قضى شيخ المشايخ ” ضمير الدين”-تغمده الله برحمته- نحبه بسنة ١٣٥٩ الهجرية جعل الفقيد يستقيل من المدرسة الإسلامية العربية بجيري ويأخذ العدة لمواجهة ظروف قاسية مقبلة، واتجه نحو فتية، وقد قرت إرادته معزومة مصرومة معرومة لتركيز روح الإسلام الحارة وإيجاد جو الدين الخالص والفكرة الصحيحة الصالحه هناك من خلال تشييد الحديقة العلمية الأنيقة التي تزهر وتثمر وتخضر وتنضر فيما بعد من فضل ربه ترتقي نشاطاتها وأريحيتها على نحو ماقدم له توجيهات وآراء مرشده المفدى به شيخ المشايخ- رحمه الخالق- السديدة الرفيعة، فاستخار الله ذلك على التوالي حوالي ثلثة وعشرين ليلا، حتى عزم وتوكل عليه عقب مضيه فى هدفه المحدد ثابت العزم، فغرس بيده الكريمة غراسا للإيمان والدين والعلم والتقوى المرتضى ،وسقاها بدمه الذكي، وعرقه الفائح ودموعه الحار الطيب، فمما جعلت اليوم -الحديقة- يحيط بمزيد من الحرص على نيل الرضوان والإخلاص والحماس الديني والعاطفة الإسلامية واستزادة اليقين الصادق والرغبة فى الأجر والثواب للمرتبطين بالجامعة -نفسها- من الطلاب والأساتذة ورجالها العموميين، هكذا اتخذت جامعتنا الإسلامية فتية، شيتاغونغ هذه اليوم شكلا لنموذج أعلى ضخما، فخما للجامعات الأخرى على صعيد بنغلاديش، وتشعبت أغصانها المديدة من ساقها إلى أفق الاسم المؤثر الأعلى وقمة الحركة الحضارية، وزروة المثال يحتذى به، من حيث أصبحت اليوم هذه أكبر صرح علمي عال، ذي شأن من بين جامعات الدولة بارز، فائق، حتى مستغن عن التبيان،  ولم يزل يتخرج فى الظرف الراهن على يدها الكريمة ـ ولا يزال فيما يستقبل ـ ألوف من رجالات التعليم والتربية ، وأعمدة التقاليد والشعائر الإسلامية من الدعاة والوعاظ الكبار،  الضلع ، الألباء البارعين،  فعلى ذلك ذاع صيتها المجيد إلى مشارق الأرض ومغاربها،  ومن قعر الثرى إلى الثريا الشامخة الشاهقة، كأنه يجعل يصل فى طرفة عين ذكرها من الأرض إلى العرش كما جاء فى التنزيل العزيز :* إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه * فقد خيل إلينا أن هذه التطورات والازدهارات فى إثرها -على اليقين- تمثيل دور بالغ رئيسي لصدق نية المؤسس المخلص ، وإخلاصه المستنال فى هذا المجال، كما يتمثل غيرنا من دوننا كثير صورة جمالها، ورونقها، بعد مشاهدة جوهر نشاطاتها المنبعثة ، وخطواتها المهمة، وإجراءاتها الحاسمة بأنيقة

كان واعظا مؤثرا، جاذب القلوب بتذكيره المحرق البالغ، فربما كانت العيون لم تبصر قط مثله شخصية بارزة فى التواضع، وإنكار الذات حتى عدم الإقبال على الدنيا والالتذاذ بها، كانت تعلو فى وجهه إشراقة إيمانية ،وترتسم مسحة من روح وفاء الصحابة وولائهم وقلق واضطراب، واحتراق للدين والأمة على محياه، يدعو الناس ليلا ونهارا إلى الحماس الديني، والهاجس الإسلامي غارقا من كل طرفه فى روح الزهد والإخلاص والحب والوداد، ورقة القلب، وتألم الصدر، وعبادة الله والذكر، ومثل غير ذلك من السلوك الإسلامي والطابع الإيماني والقرآني بكى بنفسه، وأبكى العالم بنصحه البليغ كثيرا، قلبه الرقيق قد يحترق -بالبالغ- من شدة العواطف الودية، والهواجس الخيرية للدين والأمة المرحومة إلى مدى كبير، فكان يلقي عليهم وعلى الاتكاليين الاتباع لم يفتئ نظرة الإصلاح والإرشاد بإضافة إلى العطف والحنان، حتى يرضوا وهيأوا بأنفسهم ونفاسهم فى سبيل الله تضحية متبجحة، وإيثارا كثيرا، فأي عصارة التصوير أنه كان طالبا متوقد الذهن حادالذكاء، شغوفا بالمطالعة مثاليا مثابرا فى زمن الدراسة، عالما مدققا ألمعيا، أديبا أريبا مصطعا، شاعرا موهوبا لوذعيا فى أيام التدريس، وعارفا ربانيا، مرشدا للعلماء، موجها للفضلاء، ذاكرا وقائما فى ظلمة الليالي، مصلحا للأمة عظيما، جامع كمالات، وصاحب كرامات خارقة فى هنو الإصلاح والإرشاد ، كان ينسل من فمه أسعارا جاذبية، ناصعية مشحونة بصبابة الله ، يقرضها فى شتى اللغات من الأردية والفارسية ولاسيما بالعربية على حين غرة مستغرقا فى حب الله وعشقه العميق الكثيف ، ويتقن ويجيد بفضل ما أوتي من ما يتمتع بجدارات بالغة فى العلم والأدب الرائع من تلك اللغات على حد سواء، نظم قصائده ـ بحمد الله ـ هذه الميمونة بإتقان فى ديوان يسمى “أرمغان عزيز ” تلميذه المطيع المشفوق، عبقري العربية فى العصر ،حائز الجائزة فى أدب الاطفال، الشاعر المفلق المبدع العلامة سلطان ذوق الندوي ـ أمد الله المولى الكريم ظله الوارف العالي علينا ـ بالإضافة إلى أن كان الشيخ الفقيد يستمتع بصلاحية كاملة وحدة طبع وتفوق المتينة فى الموضوع ” العروض” فمن حيث على ذلك قد صنف فى علم الفرائض والمواريث الشرعية كتابا منظوما باسم باسم “نعم العروض فى نظم العروض “بلغة الضاد الفصحى، ضحى بحياته النفيسة بأسرها فى سبيل الإصلاح والدعوة والتعليم والتربية خصوصا فى زعامة الإرشاد والتزكية، فتثوب وتملك عوضا عن ذلك أجرا عظيما لا يحصى ولا يعد عند الله، كما تمر بي الآن آية القرآن الحكيم *والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم *فغدا يتخرج على يده المعطية ـ بحمد الله ـ جمع حاشد من المبلغين والدعاة الأفذاذ الذين يتمثلون ادوار فعالة بالغة لإعلاء كلمة الله فى الأرض على مستوى أرجاء البلدان من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ولا يزالون يقومون بأعمال بارزة سائدة لصالح الأمة على كل الأقاليم مما طلعت عليه الشمس، وهذه ما يتوركون على تقديم الخدمات والادوار الشريفة تجاه الأمة اليوم هي إلا بفيضان الشيخ وببركاته الجارية ـ كما نظن ـ فقد خلف وراءه تركة للاجيال الصاعدة، والاخلاف الاتباع وفير الثروات العلمية الأطروحية الغالية فى صورة الكتب القيمة الماتعة، علاوة على ذلك من التلاميذ المتفردين المتقنين المشحذين ، لم تزل الأمة ينتفعون بها أبدا إنشاء الله ، ويشعرون بارتياح النفوس على الاجيال إلى أن يقوم اليوم يبعث فيه الخلائق للحساب، ويستيمتون بها ليلقوا على سبيل حياتهم واهدافهم المنشودة لمعة الانوار والأضواء

ومن لمع تلاميذه:  العلامة الامام “أحمد ” الذي كان تولى منصب صدر المدرسين وشيخ الحديث كأول بنفس الجامعة ساعتئذ ؛ يناهز ست عقود من حياته الطيبة الكريمة والمحدث الكبير العلامة أمير حسين الأنوري، والناقد البصير العلامة دانش، والمفتي المقبول الخبير العلامة نور الحق ،والعالم الغيور الحقاني العلامة هارون البابونغري، والمؤلف اللامع المفتي محمد إبراهيم، والمحدث الجليل قاضي التحقيق ،العلامة إسحاق الغازي -رحمهم الله- والأديب الشهير المثيل العلامة محمد سلطان ذوق الندوي- مد ظله العالي

ومن طوار الصيت الفائزين برقصة السماح :  المربي المحنك، مقتدى الأمة الرباني العلامة علي أحمد البوالوي، والعالم الغيور الحقاني العلامة هارون البابونغري والآخرون -برد الله مضاجعهم- الذين ضج بأمورهم ومواقفهم شبه قارتنا هذه الهندية آنذاك كبيرة، بعيدة المدى إلا أننا نعلم جيدا أن للبقاء الفناء، وللحي الموت، كما بعد تمام الشيئ يبدأه الزوال، ويصيبه النقصان ، فعلى هذا النحو قد يعبره الله الخالق جسر مفارقة حياته الثابت، ويستقبله أهل السماوات العُلي بحفاوة بالغة عندما أنشأ هذا العبد الصالح يستعد لأداء سيد الصلوات فى سيد الايام “الجمعة” من سيد الشهور “رمضان المبارك ” وهو طاهر مغتسلا، مقلم الاظفار، مقصر الاشعار، والشهر انقطع نصفه، والبدر فد طلع بالبارحة القريبة سنة ثمانين وثلثمأة بعد الألف من الهجرة النبوية ،فإذا هذه الشمس المنيرة عن سماء العلم والمعرفة والإصلاح والدعوة والتذكير المؤثر العجيب ضحا، وفاضت روح هذا الرجل العظيم، العبقري وجعلت السماء تنادي فرحا وحبورا بالغا كبيرا تتلو:*ياأيتها النفس المطمئنة ،ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي فى عبادي، وادخلي جنتي * وبعد يوم ” السبت ” صلى عليه بجم غفير قرابة خمسين آلاف من الناس فى ساحة الجامعة الواسعة، الشيخ الخطيب بجامع “اندر قلعة ” المركزي آنذاك عبد الكريم المدني ـ رحمه الباري ـ ثم أودع هذا الكنز الغالي الغريب حيال المسجد فى “المقبرة العزيزية ” مع أن يقضي المشهود وطره من البكاء، ويستنفد ماءهم الشؤونى ثم جعل ينطلق كل من المصابين أحزانا لا عهد لهم بها يترددون إلى رحالهم قائلين :

مضت الدهور وماأتين بمثله- ولقد أتى فعجزن عن نظرائه ،كافأه الله على ما قد خلف لنا نحن الاجيال والاخلاف- كافي الذكريات المكرمة المتوارثة أحسن مكافأة من الثقافيات والعلوميات والمعارفيات وما إلى ذلك، بعضها فى هيئة الكتب الماتعة، وأخرىها فى أوراق وقراطيس ينبعث فينا بها الحماس والنشاط جراء تهيأ الاخلاق الحميدة الكريمة فيما يستقبل ، فعلى سبيل المثال: نعم العروص فى نظم الفروص، وتنجئة الهالك عن تخطئة المولوي عبد المالك، وعزيز الكلام فى مدح خير الأنام، وخير الزاد فى سير الضاد وما إلى ذلك من المآثر

فى الواقع لم يكن لمثلي الصغير القليل فسحة ومجال أيا كانت فى قلمي النحيف النحيل من محاصرة حياته المستنيرة الواعية النافذة من كل جانب أيما محاصرة، جنبا لجنب مؤهلاته العلمية والعملية العميقة البارعة بما فيه من خدماته الدينية المضنية المتواصلة  ، التي تطالب بالسعة والرحب الصالح إلى نطاق وسيع وبعيد *وفى غصن آخر أنه عبقري الدهر، شمس المشرق، سباق الغاية فى مضمار المكارم الذي ضحى فيه كثيرون من دونه من الرجال العظام والشخصيات الفذة بالمهج والنفوس والنفاس، واستماتوا فيه لم يزالوا بموجب سبيل الدعوة إلى الله والتعليم والتربية ونشر العلوم والحضارات الدينية الخالصة المخلصة فى هذا الكون الفسيح بصفة بالغة، مستقيمة،ضخمة، واسعة النطاق !!!

فختاما، نسأل الله العلي العظيم رب العرش العظيم أن يرفع درجاته العلا مزيدا آنافآنا فى الفردوس الأعلى، ويرغده فى تجمع الحوران الكاعبة والغلمان المخلدين، تلو أن يرزقنا قاطبة الاقتفاء بآثارهم المستقيمة المعتمدة حق اقتفاء بها ،آمين! وصل على أشرف الخلق، نقطة الكائنات، محمد الأمين، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الطاهرين، يارب العلمين الرحمن الرحيم

الكاتب:    خريج الجامعة الاسلامية فتية، شيتاغونغ

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on linkedin
LinkedIn