محمد سليم الدين مهدي القاسمي
من الحقائق الناصعة أن واقعة المؤاخاة -بعد الهجرة إلى المدينة المنورة- لعجيبة وغريبة في التاريخ الإنساني. لأن مشاهدها وأحداثها فاقت كلّ تصوّر ، وفي ظلّها قدّم الصحابة كثيرًا من صور التفاني والتضحية على نحوٍ لم يحدث في تاريخ أمّةٍ من قبل ، فينبغي لنا أن نقف أمام هذه الواقعة لنتأمّل دروسها ، ونستلهم عبرها .
فمن المعلوم أن الهجرة إلى المدينة المنورة واقعة هامة في التّاريخ الإسلامي، لأنّ المسلمين تركوا بلدهم، وبيوتهم، وأموالهم، وخرجوا بأمر من الله، ونجاة بدينهم، وقد كان منهم من هاجروا إلى الحبشة في السابق؛ ليلجؤوا إلى حاكمها العادل من بطش قريش وسادتها. ثم أمر الله تعالى الرّسول ومن معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنّورة، بعد ما تحمَّلوا من ظلم كفّار قريش وعذابهم، فخرجوا من مكّة أفراداً، وجماعات. حتى هاجر الرسول-صلى الله عليه- وصاحبه أبو بكر الصديق –رضى الله عنه- الى المدينة المنورة.
وعندما وصل النّبي-عليه السلام- وصاحبه إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وقام النبى – عليه السلام- بتشريع نظام المؤاخاة في دار أنس بن مالك رضي الله عنه . فالمهاجرون خرجوا بأنفسهم وبدينهم، وتركوا أموالهم، وبيوتهم، وليس لهم صلة و لاحيلة، فعانوا عددا من المشكلات: نحو الشعور بالغربة ومفارقة الأهل والديار ، وترك معظم الأموال وَالْمُمْتَلَكَات في مكّة، وظهور الأمراض في صفوفهم كالحمّى وغيرها التي أحدثها الانتقال المفاجيء إلى بيئةٍ أخرى . فقام كل أنصاري باقتسام ماله، وأملاكه بينه وبين أخيه من المهاجرين. وأشتهرت هذه الواقعة باسم “واقعة المؤاخاة”. وهذه المؤاخاة أعطت للمتآخييْن الحقّ في التوارث دون أن يكون بينهما صلة من قرابة ، كما في قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ( النساء :33 ) .ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم ، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه ، وذلك في قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ( الأنفال : 75 ) مع بقاء المساعدة والمعاونة ، وإسداء المشورة والنصيحة ، وغيرها من معاني الأخوة .
و لم تُقم تلك المؤاخاة على الاعتبارات القَبَلِيَّة، حيث جمعت بين القوي والضعيف ، والغني والفقير ، والأبيض والأسود ، والحرّ والعبد ، وبذلك استطاعت هذه الأخوّة أن تنتصر على العصبيّة للقبيلة أو الجنس أو الأرض. وفي الحقيقة أنها كانت تجربة فريدة لم تشهد الإنسانية نظيرا لها؛ لم تكن فقط تُدبر أزمة اقتصادية نشأت عن الازدحام السكاني؛ بل كانت تترجم مباديء الإسلام في قلوب وعقول أصحابه إلى وقائع عملية. وتنشيء مفهوما للأخوة تنهل من مَعين التوجيه الرباني؛ لا من كَدِر القبيلة والقرابة .
وإذا تعمقنا النظر إلى السيرة والتاريخ نرى كثيراً من الأنصار عرضوا على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقسم الأراضي الزراعيّة بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين ، حتى أن سعد بن الربيع -رضى الله عنه- عرض على أخيه عبدالرحمن بن عوف -رضى الله عنه- نصف ماله ليأخذه ، بل خيّره بين إحدى زوجتيه كي يطلّقها لأجله. وقد أورث صنيعهم هذا مشاعر الإعجاب في نفوس المهاجرين . وقدكان ذلك تصديق قول الله عز و جل: (( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (الحشر:9 ) . وفي هذه الواقعة دروس هامة و موعظة حسنة لكل من يتدبر فيها ويتفكر ((فاعتبروا يا اولى الابصار)).
الدروس و العبر التى تستفاد من هذه الواقعة:
[۱] إيثار الآصرة الإيمانية على آصرة النسب والقرابة : وبهذه المؤاخاة ذوَّب النبى -عليه السلام- العصبيات الجاهلية وسدّدها، وأصَّل المودة وجذّرها في قلوب المهاجرين والأنصار على السواء. فآثرواعلى أنفسهم و لو كان بهم خصاصة
[۲] إيجاد البيئة اللائقة لبناء الدولة الإسلامية: ولاشك أن آصرة المودة والتآخي شريطة و لازمة لبناء الدولة الاسلامية واستقرارها؛ لأنها تعمل على نشر روح الإسلام الذي هو العصب المحرك لإقامة قواعد مجتمع جديد. فبهذه المؤاخاة أوجد النبى –عليه السلام- بيئة مثالية راعية تليق أن تبتنى عليها الدولة الاسلامية. ثم أقام فيها النبى –عليه السلام- دولة اسلامية بسهولة و أمان. فأصبحت المدينة دولة اسلامية في أقل المدة وايسرها.
[۳] أجود الطريق لحل الأزمات السياسية: ولا يخفى على أحد أن المؤاخاة تلعب دورا بالغا لإزاء الاضطرابات السياسية و التقلبات الحكومية كما شهدتها المدينة المنورة ؛ خصوصا بعد تشكل طبقة المنافقين؛ وانكشاف مؤامرات اليهود. بل إن فاعليتها السياسية امتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث مكَّنت من اقلاع الخلاف الناشيء في سقيفة بني ساعدة. فمحا الاضطراب السياسي و اندفع، ثم قامت الخلافة على يد أبي بكر الصديق _رضى الله عنه_ بأمن وسلام.
[۴] خيرتدبير للوضع الاقتصادي الطارئ: في الواقع أن الازدحام السكاني ينشأ أزمة اقتصادية في البلاد؛ خاصة اذا لجؤوا من بلاد آخر. فكذلك نشأت بعد الهجرة أزمة إقتصادية في المدينة المنورة. فحرص النبي-صلى الله عليه وسلم- من خلال المؤاخاة على إيجاد تشريع ملائم ييسر للمهاجرين معاشهم كي لا يظلوا عالة على إخوانهم. ولم يأل الأنصار جهدا لبذل ما في وسعهم والتخفيف عن المهاجرين مما يُلازم النفس عادة من ألم الوحشة ومفارقة الديار. حتى انهم قالوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن موأساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير لقد كفونا المئونة وأشركونا في الهناء حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله عز وجل لهم. (رواه احمد في مسنده، رقم الحديث:12602)
وهذا دليل على أن المجتمع الذي تكون العلاقة بين أفراده محكومة بمثل هذه المعايير الدينية؛ يرقى إلى درجة من التماسك والوحدة وتحقيق نهضة سوية. ولذا طالب الشيخ الغزالي من الحكام بفرض نظام المؤاخاة على الناس: وقال: ” لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاماً يؤخذون بحقوقه أخذا،ً فإذا لم يُؤدوها طوعا أدوها كرها؛ وذلك كما يُجبرون على العلم والجندية وأداء الضرائب (محمد الغزالي .فقه السيرة. ص 117 )
أيها القارئ العزيز! اعلم أنك للكل، والكل لك، لست وحدك في الحياة، ولاشك أن الحياة بالأخوة الإيمانية لا تبدو قاسية، وأن الحياة مع الأخوة الإيمانية تبدو مسعدة، وما من إنسان أغلى على المؤمن من أخ له في الله، تنصحه وينصحك، تعينه ويعينك، تتفقده ويتفقدك، تعاونه في معضلات حياته ويعاونك. فكن أنت منهم وأنا أيضا ممن معك، وأسئل الله التوفيق، آمين يارب العالمين.
الكاتب:أستاذ الجامعة الاسلامية فتية، شيتاغونغ، بنغلاديش