نساؤنا ونساء الافرنج
الدكتور علي الطنطاوي (رحـ)
جاءني في البريد كتاب من سيدة فاضلة، لم تصرّح باسمها، ولكن أسلوبها نَمَّ علي فضلها وأدبها، شكت فيه أشياء واقترحت أشياء، وكان مما جاء في كلامها، قولها : “وانظر الي ضيق الحياة التي تحياها المرأة العربية، وسعة حياة المرأة الغربية، وقيد هذه وحرية تلك”.
فوقفت عند هذه العبارة، وفكرت فيها، وعزمت علي أن أكتب إليها، لأوضح لها خطأها فيما ذهبت إليه. ثم ذكرت أني لا أعرف اسمها ولا عنوانها. فقلت أجعل جوابها موضوع هذا المقال.
إن ما ظنته هذه السيدة، يظنه كثير من السيدات، ولايعترفن أن ذلك ظن وتخمين، بل يرينه يقيناً وفوق اليقن، وأصدق جواب علي هذا وأخصره لفظاً، وأعمقه معني، ما أجابت به تلك السيدة الأميركية، الاستاذَ الشيخ بهجة البيطار.
حدثني الأستاذ أنه كان يتكلم عن المرأة المسلمة، في إحدي محاضراته في أميركا، ويذكر أن لها الإستقلال في شؤون المال، لا ولاية عليها في مالها لزوجها ولا لأبيها، وإنها إن كانت معسرة كلف بنفقتها أبوها أو أخوها، فإن لم يكن لها أب أو أخ فاي واحد من أقربائها الذين يرثونها، ولوكان ابن عم عمها، وأن هذه النفقة تستمر إلي أن تتزوج أويكون لها مال، وأنها ان تزوجت كلف زوجها بنفقتها، ولوكانت تملك مليونا وكان عاملا لايملك شيئا، الي غير ذلك مما نعرفه نحن ويجهلونه هم عنا.
فقامت سيدة أميركية من الأديبات المشهورات، فقالت : “اذا كانت المرأة عندكم كما تقول، فخذوني أعيش عندكم ستة أشهر ثم اقتلوني.”
وعجب من مقالها، وسأل عن حالها.
فشرحت له حالها، وحال البنات هناك، فاذا المرأة الأميركية تبدو حرة وهي مقيدة، وتري معززة وهي مهانة، انهم يعظمونها في التوافه ويحقرونها في جسيمات الأمور.
يمسكون بيدها عند النزول من السيارة، ويقدمونها قبلهم عند الدخول للزيارة، وربما قاموا لها في الترام لتقعد، أو فسحوا لها في الطريق لتمر، ولكنهم في مقابلة ذلك يسيئون اليها اساءات لا تحتمل.
اذا بلغت البنت هناك سن الرشد، قبض أبوها يده عنها، وسد باب داره في وجهها، وقال لها : اذهبي فتكسبي وكلي، فلاشيئ لك عندي بعد اليوم. فتذهب المسكينة، تخوض غمرة الحياة وحدها، لايبالون أعاشت بجدها أم بجسدها، ولايسألون هل أكلت خبزها بيديها أم بثدييها، وليس هذا في أميركا وحدها، بل هوشأن القوم في ديارهم كلها.
حدثنا أستاذنا الدكتور يحيي الشماع من ثلاث وثلاتين سنة، إثر عودته من دراسته في باريز، أنه ذهب الي منزل أسرة دلوه عليها ليستأجر غرفة لديها، فقابل وهو داخل الي الدار بنتا خارجة منها في عينيها أثر الدمع، فسأل أنْ ما لها؟ قالوا له هذه بنتنا، ولكنها انفصلت عنا لتعيش وحدها، قال : انها تبكي.
قالوا : لقد جاءت تستأجر غرفة عندنا، فلم نؤجرها.
قال : ولمه؟
قالوا : لأنها دفعت أجرة لها عشرين فرنكا، وغيرها يدفع ثلاثين.
واذا شككت في هذه القصة، ومن حقك الشك فيها، لأنها بالنسبة اليك ولكل عربي شيئ يكاد يدخل في باب المستحيل، اذا شككت فيها فاسألي الدكتور يؤكد لك أنه رآها وسمعها.
ولقد قص علينا إخواننا الذين ذهبوا الي أوروبة وأميركة وخالطوا أهلها، كثيرا من أمثالها.
لقد ابتذلت المرأة هناك وذلت، حتي صارت تبذل ما نزاه نحن أعزشيئ عليها وهو العرض، في سبيل مانراه أهون شيئ علينا وهو الخبز.
أما قرأت ماكتبه توفيق الحكيم عن الفتاة التي فرضت نفسها عليه، وساكنته في الدار، وعاشرته معاشرة الأهل، لاتريد من ذلك الا أن تجد سقفا يكنها، ومائدة تشبعها، ثم كيف ملَّها فطردها.
ان الفاسق عندنا، الفاسق يا سيدتي، يتبع هو المرأة، ويبذل لها الغالي والثمين، لأنه لايجدها الابمشقة، ولايصل اليها الا بنصب.
استترت المرأة الشرقية فعزت، وتمنعت فطلبت، وعرضت الغربية فهانت لأن كل معروض مهان.
كان الشاعر العربي الأول اذا بدا له من المرأة الكف أو المعصم، دار رأسه، وثارت نفسه، وامتلأ بالحب جنانه، وأنطلق بالشعر لسانه، ذلك لأنها كانت مستترة مخبأة. أما المرأة الغربية فان الرجل يري علي الساحل أعلاها و ادناها، فينظر الي ساقها فلايثير في نفسه معني، ولا يحرك منه عاطفة، ولايري فيه حياة، صار ساق المرأة ورجل الكرسي وخشبة الباب سواء.
ومن هناكسدت هندهم سوق الزواج. الزواج رباط دائم، يرتبط به الرجل مختارا، ليصل الي ارواء هذه الغريزة، هذا هو الدافع الأول الي الزواج. فلماذا يربط نفسه اذا كان يستطيع أن يرويها وهوطليق.
لقد فقدت المرأة الغربية الزوج، ففقدت المعيل، فاقتحمت كل عمل لتعيش، فصارت تعمل في المصنع، وتشتغل في الحقل، وتكنس الطريق من الأقذار، وقدخبرنا من رأي في أوربة البنات موظفات في المراحيض العامة ينظفنها لمن يريد الدخول … ومن النساء من تعمل في صبغ الأحذية تتخذ لها صندوقا وتبقي اليوم كله علي أرصفة الشوارع، ومنهن من تحمل في يدها كتابها، تستعد بمطالعته لامتحانها، فاذا وقف عليها رجل مد حذاءه الي وجهها، فانحنت عليه، واشتغلت به … هذه هي منزلة المرأة في ديار القوم، علي حين أن المرأة الشرقية تبقي دائما في بيتها، يكد الرجل ويشقي ليطعمها ويكسوها.
واذا بلغت المرأة عندنا سن الزواج، طلبها الرجل وتوسل اليها بالعطية الكبيرة : بالمهر، يدفعه هو اليها، فيكون حقا لها وحدها لا لأبيها ولاأخيها، وليس لأحد التصرف في شيئ منه الا باذنها.
والمرأة الغربية تركض هي وراء الرجل، فتسقط خمسين سقطة قبل أن تصل اليه، وربما سقطت سقطة كان فيها ذهابها وهلاكها، ثم ان وجدته لم يتزوجها حتي تتوسل هي اليه بالمبلغ الكبير، حتي تدفع هي له المهر، ثم يكون له الاشراف علي مالها، يشاركها في التصرف فيه، والمرأة عندنا لها وحدها حق التصرف في مالها.
تقولين كان هذا من زمان، وقد كسدت عندنا سوق الزواج وكثرت عندنا العوانس.
وهذا صحيح. ولكن لم كان؟
كان لأنا قلدنا الافرنج فيها يشكون هم منه، ويتمنون البعد عنه.
كان لأن المستعمرين وضعوا في نفوسنا، خلال القرن الماضي الذي كنا فيه نائمين وكنا غافلين، أنهم أرقي منا رقيا وأكثر تقدما، وأن ما يفعلونه هو الصواب، فقلدناهم في كل شيئ.
ولكن هل يحتمل طبعنا العربي هذا التقليد كله؟
كان العرب أغير الناس علي الأعراض، حتي أنهم وأدوا البنات خوف العار، فهل يتمالك العربي نفسه أن يكون في حفلة فيأتي رجل يقول له: “اسمح لي!”
يسمح له بماذا؟ لا بأن يريه ساعته، ولابكبريت يشعل به دخينته، بل يسمح له بأن يأخذ منه زوجته يراقصها، ليضم صدرها الي صدره، ويدني وجهها من وجهه، وساقها من ساقه.
ليس في الدنيا عربي يرضي بهذا، ولايرضي به مسلم، ولايكاد يرضي به رجل صادق الرجولة، بل انه لايرضي بمثله من الحيوانات الا الخنزير.
هذه حال نساء الغرب، فهل نساء الغرب اليوم في خير، حتي نبتغي مثل الذي عندهن لنسائنا.
لقد عرفتم ماقالت المرأة الأميركية للشيخ بهجة البيطار.
ولونطقت كل المانية وكل فرنسية لقالت هذا. انكم تنقمون من شريعتنا أنها تعطي البنات نصف ميراث الرجال, وتعدد الزوجات.
فاسألوا نساء أميركا، أما يقبلن أن يأخذن نصف ميراث الرجل، وأن يكلّف الرجل وحده بالانفاق عليهن.
سلوا نساء ألمانيا، بعد هذه الحرب، أما يتمنين أن يكون لكل عشر منهن زوج، يعدل بينهن و ينفق عليهن.
وبم تعالج مشكلة زيادة النساء في المانيا وأمثالها الا بهذا؟
اذا كانت الطبيعة التي طبع الله الناس عليها، توجب أن يجتمع النوعان، ما من اجتماعها بد، ولم يكن الاخمسون رجلا، ومئة امرأة, فهل ثمة الا أن يكون لكل امرأتين رجل؟
أوليست هذه فطرة الله في انواع الحيوان كلها؟ كم نسبة الذكور الي الاناث، في النحل وفي الدجاج؟
أولا يتخذ الزوج الغربي أربعا أو أكثر من أربع، ولكن بالحرام؟
أترضون بالثانية خليلة بعقد ابليس، ولاترضون بها حليلة بعقد الله؟
لاياسيدتي، لا تظني أن نساء الغرب أسعد عيشا أو أعز او أكرم, لا والله، ليس في الدنيا أعزولا أكرم من نساءنا.
ان الزوج عندنا لامرأته لا لا لخليلة ولا لصديقة، والمرأة لزوجها لا لعاشق ولا لرفيق، له وحده، لا تتكشف لغيره، ولايطلع عليها سواه.
فهل هذا هو عيبها عند هؤلاء المقلدين؟
هل يريد أحدهم أن تكون امراته له ولغيره؟
هل يغضب أن ترك له صحنه، ليأكل منه وحده، ولايرضي حتي يأكل بصحن تقع فيه كل الأيدي؟
أيكون الطهرعيبا, والعفاف عاراً، والخير شراً، والنور ظلاماً؟
حسبنا تفكيرا برؤوس غيرنا، حسبنا نظراً بعيون عدونا، حسبنا تقليداً كتقليد القرود ولنعد الي أنفسنا، الي عربيتنا واسلامنا، الي طهرنا وعفافنا.
ليصنع نساء الغرب ماشئن وشاء لهن الرجال، فما لنا ولنساء الغرب؟ وليكن نساؤنا كما نريد نحن لهن ويريد الله، لنكون لهن وحدهن، نقنع بهن ولا ننظر الي غيرهن.
ليس في الدنيا نساء خيراً من نسائنا، ما تمسكن بحجابهن، وحافظن علي ادابهن، وتقيدن بأخلاق العرب، وأحكام الاسلام، واعراف ذلك المجتمع الفاضل الذي اخرج عائشة وأسماء والخنساء وخولة ورابعة ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأديبات، والأمهات الدينات الصينات اللائي ولدن أولئك الرجال، الذين كانوا فرسان الميادين، وكانوا هم فرسان المنابر، وكانوا هم أبطال الفكر، وكانواهم ملوك المال، وكانوا سادة الدنيا، وكنتن أنتن أمهات أولئك السادة.
الاقتباس : المفتي عبد القيوم ، الاستاذ بالجامعة الإسلامية السلطانية لال فل، فيني.